يرسم لنا الأستاذ محمد عمر (المستخدم بمصلحة البوستة المصرية) فى كتابه العمدة: «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» الصادر فى عام 1902، لوحة تفصيلية رائدة عن الجسم الاجتماعى المصرى من خلال طبقاته: الغنية، والفقيرة، والوسطى. حيث يرصد ممارسات كذلك علاقاتها الداخلية والبينية و«تأخر مصر». وقد وصف الدكتور مجدى عبدالحافظ هذا النص التاريخى فى مقدمته الدراسية للطبعة الثانية
(1998) بالنص «المنسى». وقد أضفنا إلى ما سبق «التأسيسى» فى الحلقة الأولى من عرضنا لكتاب محمد عمر. ذلك لأنه أسس للدراسة التشريحية لطبقات الجسم الاجتماعى فى وقت مبكر وقبل أن يتقدم هذا الحقل المعرفى حتى فى الغرب. فقدم تعريفاً متميزاً لكل من مفهومى «الأغنياء والفقراء» (راجع مقالنا السابق) بالإضافة إلى رصده كثيراً من التفاصيل التى ميزت حركة هذه الطبقات وسلوكياتها، واختياراتها، ونظرتها للحياة وللدين وللمجتمع.
(2)
فى هذا السياق، يرصد الأستاذ محمد عمر- على سبيل المثال لا الحصر- ما يلى: زواج وطلاق الأغنياء والفقراء. تعليم أولاد الفقراء والأغنياء. حرف الفقراء ونشاطات الأغنياء. النظرة إلى المرأة. نظرة الطبقات الاجتماعية للوطن والوطنية وعلاقاتهما بالدين.. ولعل من أهم ما تم رصده هو موقف «الازدراء» من كل من «العلم والإنسان».
(3)
فيعيب «عمر» على البلاد عدم «اهتمام الناس بالعلوم لاعتقادهم عدم فائدتها». و«غياب أهل العلم الصحيح ممن يعملون بدأب على الرغم من المعوقات المختلفة».. ما دفع بهيمنة «الخرافات والأوهام على العقول».. وفى هذا المقام يضع تعريفاً بديعاً عن الأوهام نصه «الأوهام هى صورة المرئيات أو المحسوسات أو المسموعات يكبر حجمها أو يصغر بقدر اشتغال الفكر لقبول الخرافات أو رفضها، فهى إذاً صورة مأخوذة عن حقيقة بواسطة منظار عدسته تكبر الأجسام أو تصغرها بعامل الميل الشخصى إلى تعظيم الأمور أو تحقيرها، فعليه لا تعترى الأوهام إلا ذوى العقول الضعيفة وقلما تعترى غيرهم إلا إذا كان عندهم ضعف فى الدماغ أو انحراف فى الجهاز العصبى. فنستنتج مما تقدم أن الأوهام مرض عام منتشر ميكروبه فى كل مكان. ولكنه ميكروب يمكن التغلب عليه شريطة العلم. وفى هذا لا يختلف الغنى عن الفقير «فالعاقل المتعلم يقوى عليه فيضعفه. والجاهل غير المتعلم لا يقوى عليه فيصبح مرتعاً له فيسرح فيه ويمرح». ففى حالة الفقراء ونتيجة لحرمانهم من التعليم أو تضييق فرصه فإنهم يكونون أكثر استعداداً «لقبول تأثير الأوهام والخرافات عليهم، وأكثر أوهام العامة فى المسائل الدينية وخرافاتهم فى المسائل العمومية». أما بالنسبة للأغنياء ونتيجة «قلة إلمامهم بالعلم وجهلهم بالحقائق»- اختياراً- فإنهم يتركون أنفسهم «للتفاؤل والتشاؤم» أو «التطير». ويعطى «محمد عمر» مثلاً دالاً- أظنه لم يزل حاضراً فى حياتنا المعاصرة- يجسده أحد الأغنياء عندما: «يختلج حاجبه فيشتكى لأحد أصحابه- فيُفتيه- أن اختلاج الحاجبين يدل على إصابة خير كثير على رأى بعضهم، وعلى شر عال عند البعض الآخر.. ويرصد الإسراف فى الصرف على البخور وأعمال الدجل وحفلات الزار وقراءة الطالع... إلخ».
(4)
وهكذا بفعل «ازدراء العلم»، يتجاوز الفقراء والأغنياء «بأوهامهم الخرافية سنن العقل». ويغرقون فى عالم الخرافات بغير حدود. وهنا تصبح صورة الإنسان فى أدنى صورة. ففى غيبة العلم يسود «الاعتقاد فى العرافين بأن فى إمكانهم قتل الإنسان أو قلب صورته الآدمية إلى أى صورة أرادوها بكتابات سحرية يقوم بتنفيذها الجن.. ومنها الربط»، والكثير ما لا يمكن تصوره.. ومن هذا العالم يدخل الفقراء والأغنياء على السواء دنيا المُسكرات والمُغيبات (يضع جدولاً تفصيلياً حول الإدمان وأنواعه).
(5)
قد يقول قائل ما أشبه الليلة بالبارحة.. لذا نعيد ما قاله محمد عمر بشأن الفقراء والأغنياء- آنذاك- إن فقد التربية وغيبة العلم عموما وتغييبها عن الفقراء خصوصا قد «جعل من حالة الفقراء لا تتأثر بمرور الزمن ولذا ترى فقير اليوم كفقير الأمس».. أما الأغنياء فقد أعلوا من شأن المال واحتقروا العلم.. فبات الغنى غير منتج.