مجلدان كبيران صدرا فى وقت متزامن للدكتور جابر عصفور عن شاعرين مبدعين كبيرين هما صلاح عبدالصبور وأمل دنقل عنوانهما: «رؤيا حكيم محزون: قراءات فى شعر صلاح عبدالصبور» (فى 400 صفحة- 2017). و«قصيد الرفض: قراءة فى شعر أمل دنقل» (فى 600 صفحة- 2017).. لا يتناول المؤلف القراءة النقدية لإبداع الشاعرين فقط، وإنما يمتد من خلالهما إلى الحياة الثقافية والسياسية المصرية على مدى أكثر من ثلاثة عقود ساخنة من تاريخنا.. قرأت الكتابين فى وقت واحد. ذلك لأننى شعرت أن إبداعهما وحياتهما يكملان بعضهما البعض بالرغم من الاختلاف الظاهرى بين: «الحكمة والرفض»... فكانت متعة حقيقية.
(2)
ومن الأفكار المحورية التى شدتنى فى الكتابين، والتى تؤكد وحدة المسار الإبداعى وسلامته للشاعرين الكبيرين هو ما أشار إليه جابر عصفور: بأن كلاً من صلاح عبدالصبور وأمل دنقل قد انطلقا فى كل أعمالهما من «وعى مدينى».. و«الوعى المدينى» هو مجمل العمليات الفكرية والممارسات العملية التى تعكس القيم والسلوكيات المُحدثة.. بلغة أخرى، كان الإبداع الشعرى «للحكيم والرافض» متجاوزاً قيم ما قبل الحداثة من إتكالية، وقدرية، وتبعية.. إلخ، وثائراً على مؤسساتها التقليدية الأبوية وعلاقاتها التسلطية التى تفرض الخنوع والخضوع.. إلخ، ونمط إنتاجها ومبشراً بالتحرر منها.. وعن مرجعية الوعى المدينى للشاعرين يقول جابر عصفور.
(3)
أولاً، عن الحكيم صلاح عبدالصبور «لقد ظل، فى كل أحواله ومراحله المتقلبة (شاعر مدينة)، شأنه فى ذلك شأن أقرانه من شعراء الحداثة الذين ظلت (المدينة) فضاء شعرهم وأساس بنيته فى الوقت نفسه». ويقصد الدكتور جابر «المدينة متعددة الطبقات والأجناس التى يتجاور فيها المصنع والمعبد والسجن الذى تكتمل بحضوره ملامح مدينة العالم الثالث، خصوصاً بعد أن أصبح مغلولاً إلى الشوارع المسفلتة.. وأتصور أن انطلاق شعر صلاح من وعى مدينى مُحدث، هو الذى جعله يرى المدينة فى نفسه ويرى نفسه فى المدينة، وذلك منذ أن قطع هذا الوعى الحبل السرى الذى وصله بالقرية الرحم، فاستبدل بها المدينة التى أصبحت موضوعاً للتأمل، ومن ثم تمثيلاً رمزياً للوجود، وليس ملاذاً روحياً للفرار من وطأة مدينة بلا قلب، فكانت القرية موضوعاً شعرياً يٌعالج من منظور فكر مدينى بعينه.. فكر بدأ بالتمرد على الميتافيزيقا التى تؤكد حضور الإنسان الذى له، وحده، الملك، على الأرض، لا تحتها، نفياً للمنظور الدينى السلبى للإنسان».
(4)
ثانيا، أما عن الرافض أمل دنقل فإن ما جعله رافضاً هو أن المدينة التى عبر عنها- حسب جابر عصفور- هى «المدينة القامعة من حيث نخبتها الحاكمة، ومقموعة على مستوى الأغلبية، متلازمة مع أجهزتها الأيديولوجية التى تُبقى على المقموعين قمعهم، وتبرره، أو تزينه لهم تخييلا وتدليسا، فيتجاور فى هذه المدينة المسجد والمدرسة والمعتقل والصحف الكاذبة». مدينة «التفاوت الطبقى، ومجموعات الهامشيين والمقهورين والمقموعين، والأحزاب المتصارعة سياسياً، والمصالح المتعارضة اقتصادياً، والتيارات المتناقضة فكرياً، والمبدعين الذين يستريب فيهم الجميع...». إنها المدينة التى عرفها أمل دنقل «وتعمق فيها شعراً ووعياً، فانقلب من شاعر يكتب عن ذات العينين الخضراوين إلى شاعر يكتب عن الحب الذى سحقته علاقات الربح والخسارة، ومن مثقف وطنى يبتهج بالتحرر من الاستعمار، والخلاص منه أو الانتصار عليه، إلى مثقف يتبنى العدل الاجتماعى» بمعناه المركب وضرورة رفض ومقاومة كل صور الظلم لاستحالة التصالح معها تحت أى ظرف.
(5)
فى ضوء «الوعى المدينى» أبدع شاعرانا، وأنتجا أعمالا شعرية ومسرحيات «تدرك خصوصية اللحظة التاريخية التى تعيشها المدينة» والقضايا التى تشغل مواطنيها.. لذا بقيت هذه الأعمال خالدة تتذكرها الذاكرة الجمعية مع بزوغ إشكاليات فكرية فى علاقة المثقف أو المواطن بالسلطة أو عند تصاعد الحضور «المواطنى» فى الميادين.. فمن ينسى سبارتاكوس.. وأقول لكم.. والكعكة الحجرية.. وتأملات الزمن الجريح.. ومأساة الحلاج.. وبعد أن يموت الملك.. ولا تصالح.
(6)
إن الكتابين يقدمان متعة حقيقية للقارئ عن الشاعرين: الحكيم والرافض وإبداعهما، على خلفية الوضع الثقافى: مؤسسيا، وأكاديميا، وسياسيا، على مدى نصف قرن تقريبا.