سلسال الإبداع المصرى لا ينضب. وها نحن أمام قيمة إبداعية وفكرية ووطنية أخرى. إنه المستشار «عادل غنيم». رجل ينتمى إلى أسرة قضائية عريقة، (والده كان النائب العام فى وقت عصيب من تاريخ مصر قبل 1952). يتميز بقامة طويلة تتسم بالعزة والشمم. تذكرك فورا بأجدادنا الفراعنة فى أوج حضارتهم، عندما كانوا يحملون العدل فى يد والمعرفة فى اليد الأخرى. ويمارسون القضاء والتنوير بكل الحق والاستقامة بزهد وفى صمت. لوجه الله والوطن.
(2)
تعد أعماله الفكرية من الأعمال الرائدة، والتى تفتح آفاقا للنقاش والبحث. فله يحسب إلقاء الضوء للمرة الأولى على ما وصفه: «بالطبقة الجديدة فى مصر» (مجلة الطليعة- 1968)، كظاهرة اجتماعية بازغة فى مصر الستينيات (وما بعد). الطبقة الجديدة التى ولدت من رحم البيروقراطية خلال عمليات التحول الاجتماعى والاقتصادى والتكنولوجى. وهى طبقة ذات قدمين: الأولى فى القطاع الحكومى وبفضل دخلها المرتفع باتت لها قدم ثانية فى القطاع الخاص تستثمر فيه بنفسها أو عبر وسطاء فائض دخلها المرتفع، أو بالطبع يكون لها نصيب بشكل أو آخر فى الاستثمارات الخاصة. إنها خلطة: تكنوقراطية (مهنية)، بيروقراطية (إدارية) تنتمى للطبقة الوسطى فى الأغلب. ولأسباب كثيرة توكل إليها إدارة عملية النمو، والتى تديرها لصالح استمرار مصالحها على حساب القاعدة الاجتماعية العريضة.. وقد أثارت هذه الدراسة الكثير من الجدل آنذاك، وفتحت حوارا موسعا حول المسار التنموى والسياسى الذى تنهجه مصر، وخاصة فى أعقاب الهزيمة المحنة.
(3)
وقد أتاحت هذه الدراسة للمستشار عادل غنيم أن ينجز كتابا مرجعيا ومفتاحيا لفهم مصر عنوانه: «النموذج المصرى لرأسمالية الدولة التابعة: دراسة فى التغيرات الاقتصادية والطبقية فى مصر 1974- 1982» (دار المستقبل العربى- 1986). وهو كتاب يندرج تحت ما يمكن وصفه «بالتصنيع الثقيل». حيث يرسم صورة دقيقة للتحولات الهيكلية الاقتصادية والطبقية فى مجالى الزراعة والصناعة بعد أن يرصد مسيرة مصر الاقتصادية ورأس مالها النقدى والتجارى. كذلك رأس مال مصر فى قطاع التشييد والمقاولات. والمحصلة السلبية المشوهة التى شكلت مسار التنمية المصرى.. إنه كتاب عمدة وتأسيسى لا غنى عنه لفهم ما جرى فى مصر.. وكعادته استمر فى صمت- وعلى مدى 20 سنة تقريبا- يراقب ما طرأ على مصر لاحقا.
(4)
ففى عام 2005، أصدر كتابا متمما لما قبله عنوانه: «أزمة الدولة المصرية المعاصرة» (دار العالم الثالث). حيث تعرض تفصيلا لكل مكونات وعناصر الدولة المصرية وما آلت إليه اقتصاديا واجتماعيا فى إطار العولمة. كما تناول: ماكينة التشريع وتحيزاتها، والقطاع العام، وسوق الأوراق المالية، وسوق العمل وعلاقاته، وسوق السلع، والجهاز الإدارى، وأسباب استمرارية الأزمة المالية، والمجتمع المدنى، والمؤسسات الدينية... إلخ. وفى المجمل تعرض لما سماه أزمة الهيمنة بأبعادها. وضعف التكوين التاريخى والتركيب الاجتماعى والتنظيمى للرأسمالية المصرية من جهة، والطبقة العاملة من جهة أخرى.. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام دليل متميز لمصر وما مرت به وتعرضت له.. ولم يكتف بذلك المستشار عادل غنيم، وإنما قام فى إطار الدراسات المقارنة بإنجاز عمل مهم جدا للتجربة الصينية جدير بالقراءة.
(5)
كما قدم المستشار عادل غنيم المثل على المتابعة لجديد الفكر العالمى، فانكب على ترجمة كتاب: «السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية» (دار الثقافة الجديدة- 1989). والذى يعتبر أحد النصوص المرجعية لواحد من رموز اليسار الجديد: «نيكوس بولانتزاس (1936- 1989). وتأتى أهمية الكتاب فى رصده للدولة الرأسمالية المعاصرة ومكوناتها وعلاقاتها. وفى نفس الوقت ترجم المستشار الذى يعمل فى هدوء لأنطونيو جرامشى (1891- 1937) «كراسات السجن» (المستقبل العربى- 1994). وهو أحد المنظرين والممارسين السياسيين المعتبرين والمجددين فى القرن العشرين.
(6)
بذراعه، كما يقولون. بعيدا عن المؤسسات ومن خارجها. وبعيدا عن الأضواء المنشغلة أساسا بمن ليس لهم إنجاز.. أبدع عادل غنيم فكرا وإطلاعا.. وأنتج أعمالا أصيلة مرجعية لتنير الطريق لفهم مصر وتقدمها.. تحية لأحد رموز سلسال الإبداع فى ثمانينياته.. مد الله فى عمره.