المتابع لحصاد الفكر الإنسانى خلال عام 2016 سيجد عودة الاهتمام «بدراسة الطبقات الاجتماعية»؛ التى تشكل الجسم الاجتماعى لأى أمة من الأمم. وأظن أن هذه العودة ترجع لسببين هما: الأول: فبعد أن أطلق «جى ستاندينج، عالم الاجتماع البريطانى أطروحته «البريكاريات: الطبقة الخطرة الجديدة»، مع مطلع العقد الثانى من الألفية الجديدة، والتى تتناول دراسة التشكيل الطبقى للمجتمع البريطانى، والتى نتج هنها تقسيم جديد يتجاوز التصور الكلاسيكى للخريطة الطبقية المعتادة. حيث استحدث طبقة أطلق عليها «البريكاريات» والتى أظن أننا أول من نوه عنها باللغة العربية وترجمناها إلى: «الطبقة المحرومة/ المستبعدة/ المقهورة»؛ أو «الطبقة التى لا يحسب حسابها فى أى حسابات سياسية واجتماعية». لذا توصف «بالخطرة» نظرا لما يمكن أن تقوم به من أفعال ضارة بالمجتمع ردا على استبعادها وحرمانها...
أما السبب الثانى لعودة دراسات التحليل الطبقى فتعود إلى: التمرد على ما فرضته سياسات الليبرالية الجديدة من مناهج تعليم لا تهتم بالتحليل الطبقى ولا بالتحليل التاريخى فى آن واحد، فاقتصاد السوق كفيل بأن يحقق السعادة للجميع ومن ثم لا داعى للتفكير فى التاريخ ولا فى التشكيلات الطبقية وعلاقاتها...
(2)
فلقد كشفت دراسة «ستاندينج» أن مقولة «سكون المجتمعات» غير صحيحة، حتى فى مجتمع متقدم مثل المجتمع البريطانى فإن جسمه الاجتماعى قابل للانقسام والانشطار الطبقى. وقابل أن ينتج طبقات وشرائح اجتماعية خارج التقسيم المتعارف عليه علميا وتاريخيا. ومن ثم كان كتاب: Mike Savage،(أستاذ علم الاجتماع الشهير) «الطبقة الاجتماعية فى القرن الواحد والعشرين» «Social Class in the 21st Century»؛ من الكتب الهامة التى يعيد فيها وضع «المسألة الطبقية» فى قلب الحياة الأكاديمية والسياسية فى بريطانيا. فلقد انطلق مايك سافيدج من المسح الطبقى الشهير الذى جرى فى إنجلترا عام 2013 وهو نفسه الذى اعتمد عليه ستاندينج. ومنه أعلن «عودة إشكاليات الطبقة مرة أخرى»، بفعل حدة اللامساواة التى طالت المجتمع البريطانى من جراء سياسات الليبرالية الجديدة الاقتصادية. ومن ثم ظهور طبقات اجتماعية جديدة. وتحت طبقات جديدة ويقصد بها: شرائح ورقائق اجتماعية جديدة. ونجح فى الربط علميا بين «انتشار اللامساواة» وبين «الانقسامات الطبقية» فى الجسم الاجتماعى.. وقد فتحت هذه الدراسة الباب أمام الكثيرين لدراسات أكثر تفصيلا تشمل ما يلى: الانقسامات الطبقية وعلاقتها بالجغرافيا، وطبيعة الحراكات الاجتماعية فى السلم الطبقى، والشرائح الطبقية الجديدة التى تولدت بفعل التقدم التكنولوجى،... إلخ.
(3)
ومع تعدد الدراسات، تنوعت الاجتهادات فى التحليل الطبقى. ومن رسم خرائط طبقية مختلفة للجسم الاجتماعى. حيث يتوافق المجتهدون أنه لا سبيل من إحداث أى تغيير فى المجتمع دون معرفة ما استجد على الخريطة الطبقية فى «بريطانيا» إذا ما أردناها «عظمى» مرة أخرى. الأكثر تأكيد البعض من أنه لا يمكن فهم أى شىء فى المجتمع البريطانى بغير فهم ما طرأ على جسمه الاجتماعى من تحولات وانشطارات نوعية، فالتحليل الطبقى من شأنه أن يعيننا فى فهم ما يلى: أولا: تحليل طبيعة السلطة السياسية القائمة. ثانيا: طبيعة التوجهات الاقتصادية وتحيزاتها. ثالثا: طبيعة التراكم الاقتصادى وتأثيره على طبقات المجتمع المختلفة. رابعا: التأثير المجتمعى للنخب الجديدة على كل الأصعدة. خامسا: إمكانيات وإعاقات الحراك الاجتماعى. سادسا: استراتيجيات التنمية وتأثيرها على طبقات المجتمع المختلفة. سابعا: أثر الاستغلال والفقر واللامواطنة (والعلاقة المركبة والمتشابكة بينهم) على تفاقم المسألة الطبقية. ثامنا: دحض نظريات التمايز الاجتماعى التى سادت مع سياسات الليبرالية الجديدة (اقتصاد السوق المفتوح) لتبرير التفاوتات والاختلالات المتعددة... إلخ.
(4)
فى هذا السياق، أظن أننا فى أشد الحاجة إلى الاطلاع على جديد الأفكار فى مقام «التحليل الطبقى». أخذا فى الاعتبار أهميتها البالغة لأنها تنطلق من الواقع وفق مسوح تتم بين الناس/ المواطنين فى كل موقع. ونؤكد كيف «ألهم» المسح الميدانى الطبقى الذى أجرى فى بريطانيا منذ ثلاثة أعوام كثيرا من العقول السوسيولوجية والسياسية على الإبداع والاجتهاد فى المسألة الطبقية بوصفها مدخلا حاكما لوضع أى سياسات تتعلق بالمواطنين. ونذكر، بعضا من هذه العقول كما يلى: «جوران ثيربورن»، و«دانيال أوسك» و«إريك أولين رايت» و«يل أتكينسون» و«روزمارى كرومبتون»،.. إلخ.. وكلها أبدعت فكرا ومنهجا وأداتيا فى معالجة مسألة أهملناها منذ وقت طويل بحسب روشتة الليبرالية الجديدة.. نواصل...