شغلتنى كثيرا، ومنذ وقت مبكر، هذه السجالات الحدية حول أى فترات التاريخ المصرى ذات قيمة. وأى تيار سياسى أكثر وطنية من باقى التيارات. وكيف يتم إسقاط فترات كاملة من التاريخ لصالح الفترة التى يتم التحيز لها.. وأذكر أن هذه النوعية من النقاشات والتى بدأت أخوضها منذ الفترة الثانوية كانت تؤدى بنا نحن «المتساجلين» إلى طريق مسدود وقطيعة بيننا. والأهم أننا كنا نستقى معلوماتنا من مصادر متناثرة غير منظمة. فلم تكن مناهج التاريخ آنذاك مصدرا يعتد به. ولم تكن هناك أماكن للتكوين الثقافى تؤمن دراسة تاريخية موضوعية ومنهجية. وأذكر أننى شخصيا عرفت أن هناك مواطنا مصريا اسمه محمد نجيب تولى رئاسة الجمهورية قبل الزعيم جمال عبدالناصر وذلك وأنا فى الصف الخامس الابتدائى من خلال نقاش عابر مع أحد الأصدقاء، وكان ذلك نهاية الستينيات.
(2)
فى منتصف السبعينيات، وقع فى يدى كتاب عن «فكرة التاريخ». ومن خلاله قرأت عبارة للمفكر الموسوعى كوندورسيه يقول فيها: «إن التاريخ هو القاعدة التى ينطلق منها تقدم المجتمعات».. وكان السؤال المنطقى والمنهجى الذى قفز إلى ذهنى- آنذاك- لماذا؟.. وما العلاقة بين التاريخ والذى يعنى الماضى، وبين التقدم والذى يعبر عن المستقبل؟.. ولم يمر وقت كثير حتى وقع فى يدى كتاب من أهم الكتب التى قرأتها مبكرا ألا وهو: «التاريخ» لجوردون تشايلد (ترجمة عدلى برسوم عبدالملك وتقديم العلامة الاستراتيجى الكبير أنور عبدالملك فى سلسلة مكتبة الأفكار التى انطلقت فى الخمسينيات).. ففى هذا الكتاب أدركت كيف أن دراسة التاريخ من شأنها أن: ’’تلعب دورا رئيسيا فى تفهم، ومن ثم تحديد، معالم الشخصية الوطنية، والقومية، والحضارية، التى بدورها، تلعب دورا توجيهيا رئيسيا فى تحديد الحراك السياسى والحضارى للمجتمعات البشرية‘‘.. كذلك بلورة ’’ذاكرة تاريخية قومية واحدة‘‘...
(3)
أى أن التاريخ يقوم بثلاث مهمات هى أولا: الإجابة العميقة والثرية عن ملامح شخصيتنا فى حالتها المركبة التى تتضمن: الحضارة المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، والحديثة، وكل ما وفد إلينا وكان له تأثير بدرجة أو أخرى على هذه الشخصية.. إنه التاريخ الذى يعكس «الوحدة والتنوع».. وثانيا: الرصد والتوثيق والتأريخ لكل جهد مورس من قبل الناس(المواطنين) على «اختلافهم» من أجل رفعة هذا الوطن وتقدمه والعمل الدؤوب فى هذا الاتجاه.. وثالثا: الربط والتوحيد بين المصريين- على اختلافهم- عبر العصور بتنويعاتهم، من خلال ذاكرة وطنية تحظى بتوافق...
(4)
إذن: إدراك من نحن؛ التقدم دون تعثر؛ ذاكرة موحدة بين المصريين؛.. ثلاث مهام تؤمنها دراسة التاريخ. من هنا كان اهتمام العالم المتقدم بتأمين مناهج تاريخ لمواطنيه على مدى كل سنوات الدراسة. وأشير هنا إلى عدد المناسبات الهامة التى مرت بمصر والعالم وكيف كان يحتفى بها. فمثلا احتفل العالم فى العام الماضى بمناسبة مرور 100 عام على الحرب العالمية الأولى. كيف أثير نقاش مكثف، وصدر العديد من المراجع المعتبرة، واُنتجت أفلام وثائقية، وصدرت مجلات مصورة، وبوسترات،...، إلخ، للاحتفال بهذا الحدث تناسب كل الأعمار. وكان الجميع ملتزما بتقييم موضوعى لهذا الحدث التاريخى دون تجريح أو تصفية حسابات. فالمناسبة أوروبية بامتياز ومن ثم كان هناك إحساس باللحظة التاريخية المشتركة. كما كانت هناك رغبة جماعية فى الكشف عن أبعاد جديدة للحدث التاريخى من أجل مستقبل أفضل.
(5)
ولنتخيل معا، ما لم تكن المعالجة التاريخية تراعى الوحدة والاندماج بين العناصر الأوروبية المتنوعة. كذلك القراءة الموضوعية النقدية للحدث، فإن الصراع الأوروبى سوف يتجدد لأنه سيتحول إلى سجال أجوف.. ويتباعد الأوروبيون عن بعضهم البعض.. ففكرة المعاناة المشتركة، وعدم تكرارها، تجدد اللحمة الإنسانية وتبلور موقفا موحدا تجاه العنف والحرب والدمار. كما تخلق محددات جديدة للعيش المشترك تقنن التفاوض السلمى بين البشر فى مواجهة الصراع الدموى.. أى التعلم من التاريخ ودروسه...
(6)
وظنى أن غياب منهج تاريخى معتبر يجعل كل كتلة متماثلة من المواطنين لا ترى إلا نفسها. فالتاريخ يبدأ بها ويستمر عبرها.. كما يجعلها تنكر وتتجاهل النضال المشترك مع باقى الكتل المواطنية.. والأهم المصير المشترك.. فنرى ما نراه من «عراكات»، مهددة لأمننا الوطنى، ذات طابع دينى بين مصريين ربطهم النهر والأرض والمعاناة المشتركة.. كيف؟.. نواصل.