الحرية؛ قضية قديمة- جديدة. قديمة قدم الوجود الإنسانى. وجديدة جدة نضال الإنسان الدائم من أجل كسر القيود المتنوعة التى تقيد حركته، وتفكيره، وتعبيره عن نفسه، ونضاله من أجل المساواة والعدالة. والتى من دونها لا يمكن أن يبدع الإنسان، ولا أن ينتصر المواطن للتقدم المجتمعى: الاقتصادى، والاجتماعى، والسياسى، والثقافى.
(2)
أفكار تداعت إلى عندما وقع فى أيدى كتابك ’’الحرية‘‘؛ لإيزايا برلين، الصادر عن المركز القومى للترجمة. وإيزايا برلين (1909- 1997)، هو مفكر ومؤرخ بريطانى معتبر وحصل على لقب سير. وعمل أستاذا بأكسفورد. عنى بقضية الحرية وتطورها بعد الحرب العالمية الثانية. كما عالجها من جوانب عدة: أولا: التغيرات التى طرأت عليها فى ضوء الصراعات الأيديولوجية التى اشتعلت فى النصف الثانى من القرن العشرين: سياسيا وثقافيا. وثانيا: تطور المفهوم نفسه فى إطار كتابات المؤرخين وعلماء الاجتماع، والكتاب. وخاصة جون ستيوارت مِل. ورابعا: فى علاقة الحرية بغيرها من المفاهيم والأفكار.
(3)
وأهمية هذا الكتاب أنه جدد التفكير والنقاش حول الحرية. بعد أن وصلت إلى ذروة النقاش فى كتابات «أريك فروم» والتى تناولها فى ظل أزمة الطبقة الوسطى التى تنازلت عن حريتها فى زمن النازى. جدد «برلين» الحديث عن الحرية فى زمن التنافس الأيديولوجى بين المعسكرين الاشتراكى والرأسمالى. وكيف أن الحرية لن تكون «حتمية» فى أى من المعسكرين ما لم تتم مراجعة الإعاقات التى تعوق الحرية فى كل أيديولوجية.
(4)
فلم يعد كافيا تكرار الحديث عن أن الحرية هى السمة الأساسية التى تميز البشر عن كل ما هو غير بشرى. وبأن ثمة درجات للحرية، درجات تتكون عبر غياب العقبات أمام ممارسة الاختيار الإنسانى. ويشير «برلين» إلى تنوع العقبات (الإعاقات) أمام الحرية الإنسانية. فلقد تكون: «جسدية، أو نفسية، داخلية أو خارجية، أو اندماجات معقدة من كلا العنصرين،.. ناجمة عن عوامل اجتماعية و/أو فردية». وعليه فإن الحرية لا تتحقق مالم تزُل العقبات. ولن تزول العقبات إلا بالفعل الإنسانى النضالى تجاه العقبات واحدة وراء أخرى...
(5)
أن يكون المرء حرا يعنى أن يكون «قادرا على اتخاذ خيار غير قسرى. ما يعنى سعى الإنسان على توسيع الخيارات بنفسه. لتحقيق المفروض للاستجابة للحقوق، والفضيلات.. إلخ. بلغة أخرى لا تكون الخيارات غير مفروضة على الإنسان ما يضطره أن يقبل بما هو متاح يكون مغايرا للحقوق المطلوب تأمينها.. وفى عبارة لافتة يقول «بيرلين» ما نصه: «كان جوهر الحرية كامنا دوما فى القدرة على الاختيار كما تشاء، لأنك تتوق إلى الاختيار، غير مكره، غير مرهب، وغير منجرف فى نظام ضخم ما؛ وفى حق المقاومة، فى ألا تكون شعبويا، وأن تدافع عن قناعاتك لمجرد كونها قناعاتك. تلك هى الحرية الحقيقية، ومن دونها ليس ثمة حرية من أى نوع، ولا حتى توهمها»...
(6)
وعليه، فإن مقولة جان جاك روسو التى يقول فيها: «الإنسان يولد حرا ولكنه يعيش مقيدا بالسلاسل فى كل مكان»،.. فالإنسان بالطبيعة حر. ولكنه بمجرد أن يدخل معترك الحياة تجد الحرية وقد قيدت بسلاسل من كل نوع.. ربما بسبب النظام الاقتصادى القائم أو بسبب الاستبداد أو أن يعطى البعض لأنفسهم الحق فى أن يفكروا ويقرروا بالنيابة عن هذا «الإنسان».. تعد مقولة- على صحتها فى المطلق- لا ينبغى على الإنسان أن يقف عندها...«فبرلين» يؤكد على أن المعنى الأساسى للحرية هو: «التحرر من القيود، ومن العيش أسرى الحبس للماضى، أو التقاليد البالية، أو التدخل السافر فى الشأن الخاص، أو الاستغلال، أو الاستعباد، أو الخضوع والخنوع، أو ترك الآخرين يسيروننا،.. إلخ».
(7)
الحرية «أمل» إنسانى تاريخى.. ولكن الإنسان قادر على بلوغها «بالعمل».. شريطة أن يكون للآخرين نفس الحق. فلن تكون هناك حرية لى ما لم نعترف بحرية الآخرين.. وبدوام ممارسة النقد الذاتى. فكما ننقد الواقع الملىء بالقيود ويعمل على تقييد حريتى.. لابد لى أن أنقد أفكارى التى ربما تكون قد ساهمت فى صنع كثير من هذه القيود...
(8)
نص «الحرية»؛ لإزايا برلين، نص جميل وبديع جدير بالقراءة. حسنا أن قام بنشره المركز القومى للترجمة.. نص ينشط العقل ويتيح التأمل فى واقعنا العربى المعاصر ومستقبله.. نواصل.