’’المسرح قناع: ومن يهتك هذا القناع يستطيع أن يتصفح قلب أوروبا وعقلها‘‘؛...
عبارة جاءت فى نهاية مقدمة كتاب «أقنعة أوروبية»(1986)؛ للعالم الجليل المثقف الموسوعى الكبير الدكتور لويس عوض. فلقد كان لويس عوض فى هذا الكتاب يعرض لثلاثين مسرحية من إبداعات المسرحيين المعتبرين شاهدها عبر رحلاته الأوروبية التى كان يحرص عليها سنويا، لرصد جديد الحركة المسرحية العالمية «كجزء من واجباته الثقافية». عبارة لم تفارقنى قط. وأذكر أننى دونتها فورا.. إلا أننى لا أعرف بدقة الملابسات التى دفعتنى إلى إسقاط مقولة لويس عوض على الحياة اليومية.. وحاولت أن أجد تفسيرا، يمكن تلخيصه فى الآتى...
(2)
أليست «الدنيا» «مسرح كبير»، كما يقول يوسف بك وهبى.. والحياة اليومية تضج بالكثير من الشخصيات تتفاعل فيما بينها. وأنه حتى يفهم المرء الحياة بما تتضمن من شخوص، لابد من «هتك قناع الحياة اليومية»، فأبطال هذه الحياة، يبدو لى بعد هذا العمر، أنهم أقرب إلى «المشخصاتية» الذين يحملون أكثر من وجه أو لنقل «أقنعة»، نعم «أقنعة». ولا يمكن فهم أى شخصية ما لم يبلغ المرء الوجه الحقيقى.. سيطرت علىّ هذه الفكرة على مدى عقود حتى الآن.. فما إن ألتقى أحداً يكون همى هو أن أنتهك- ليس بالمعنى القسرى المباشر- وإنما بالمعنى المجازى وفى حدود اللياقة، والموضوعية: «القناع/الأقنعة» التى يرتديها.. قليلون ممن قابلتهم كانوا على سجيتهم وبوجوههم الحقيقية.. أو كانوا «حقيقيون»، بلغة أخرى...
(3)
وقد عمق لدى هذه الفكرة قصة قرأتها مبكرا لتشيكوف 1860- 1904 (ضمن مختاراته القصصية)، وأكاد أقول سكنتنى، عنوانها: «القناع».. تحكى عن حفلة تنكرية خيرية أقيمت فى القاعة الكبيرة لأحد النوادى الاجتماعية. وبالطبع كان المشاركون فى الحفل التنكرى يلبسون الأقنعة. وإلى جوار هذه القاعة كانت هناك قاعة القراءة حيث تضم خمسة رجال من المهنيين ورجال الفكر- بغير أقنعة بطبيعة الحال- منكبين فرادى على القراءة. وفجأة وهم منهمكون فى القراءة، مزق سكون القاعة صوت أجش مكتوم منبعث من أعماق أحد القبور يقول: «أعتقد أننا سنكون أهدأ بالا فى هذا المكان...أقبلن!...»، «وانفرج باب القاعة ودخل منه إنسان بدين يتنكر فى «حلة حوذى بقبعته ذات ريش الطاووس ويغطى وجهه بقناع».. وكان يقول لمن معه: سنجلس هنا، «فأسقط بعض المجلات من فوق المنضدة وقال: أيها السادة المنهمكون فى القراءة انصرفوا، ليس هذا وقت الصحف والسياسة..».. تذمر كل من فى قاعة القراءة. إلا أنهم رضخوا بمجرد أن خلع الرجل المقنع قناعه. وعرفوا شخصيته الحقيقية وأنه أحد النافذين.. وأخيرا سقط الشخص النافذ فى ضعف وسكينة...
(4)
الخلاصة، الجميع يلبس الأقنعة.. أو لنقل «كلنا».. شاغلو قاعة القراءة ممن كانت ترتسم على وجوههم ملامح التمسك بالنظام وضرورة الالتزام بوظائف القاعة.. نجدهم وقد تغيرت ملامحهم الظاهرة- التى لم تكن حقيقية فى واقع الأمر- وبدا وكأنهم يرتدون أقنعة تخفى ملامح الاستكانة والخنوع.. وفى المقابل وضح أن قناع القوة كان يخفى وجها قويا- نعم- ولكنه سرعان ما تبين أنه قناع غير ظاهر يخفى الوجه الحقيقى: «الضعيف».. وهكذا.
(5)
فكرة تتداعى لى بقوة فى كل محفل يحط فيه المرء.. فكلنا نجتهد فى وضع الأقنعة.. ومن لا يضع الأقنعة يتحول وجهه الحقيقى إلى قناع.. اجتهاد نلجأ إليه دفاعا عن الوجود، وحماية للمكاسب، وخوفا من المستقبل وما يحمل من غموض.. لعبة الوجوه والأقنعة لعبة لبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.. كما أنها لعبة تتيح أن نجُمل كيفما شئنا.. وأن نأخذ مواقف ليست فى مكانها.. ونطلق مسميات فى غير موضعها.. أو نعد بما لن ننفذه.. أو نتقمص بطولات وهمية.. أو نتخيل إنجازات وهمية.. إنها لعبة مسرحية بامتياز تسمح بالمناورة والمداورة والمراوحة.. بيد أنها ’’أقنعة ــ وجوه‘‘ جديرة بالانتهاك لمعرفة واقعنا فى حقيقته.. و’’تصفح قلب مصر وعقلها‘‘؛.. نواصل.