معروف أمشير «بزعابيبه»، ورياحه «الغبرة» الخانقة.. إلا أننا تعودنا على حضوره والتعايش معه، باعتباره «عابرا». وأن الربيع قادم.. قادم لا محالة. وبدافع الأمل والثقة فى قدوم الربيع استطعنا كسر مظاهره السوداء على مدى الأزمان بدرجة أو أخرى. والأهم اعتباره عابرا. ومثلما كتبنا مرة: نعم فعله مؤثر، بحسب الوصف الذى أبدعته الخبرة المصرية الشعبية التاريخية: الاسم لطوبة والفعل لأمشير، ولكنه فعل بلا ملامح، لا يترك أثرا أو يثير شيئا طيبا فى النفس.. ويتم تناسيه فورا مع بدء الإشراق والتفتح.
«2»
إن أمشير، وقبل عامين، أصبح يأتى ولديه إصرار على ألا يكون عابرا.. فلقد بات يأتى يحمل الدمار.. ويؤسس لتقويم جديد هو تقويم النحر لزمن لا إنسانى، متشحا بالسواد إلا من عينين يخرج منهما نيران للحرق، ومتسلحا بكل أدوات النحر لأرواح إنسانية بريئة، باسم الله، تارة على الهوية الدينية، وتارة على هوية الرداء، وتارة على الهوية الأجنبية التى دخلت مصر آمنة.
«3»
لقد صارت معركة على المكشوف بين أبناء الربيع وأبناء أمشير الأسود، بين من يتمسكون، كما ذكرنا مرة، بدورة الزمن الكونية الطبيعية التعددية الفصول والذين يثقون بمقدم الربيع والإزهار، وبين دعاة الزمن غير الطبيعى والساكن أحادى المواسم، ومن ثم، لم يعد ينفع التواطؤ ولا التباطؤ! التواطؤ بالصمت، أو بصرف النظر أو تحويله، أو بالغلوشة... إلخ. ولا التباطؤ بتسويف المواجهة، أو إعادة الحق لأصحابه من المواطنين المصريين على اختلافهم، إنه حق الشهيد، ولا عودة أو تنازل عنه.
«4»
لقد تجاوز الظالمون المدى، فلقد بدأت دورة العنف الدينى مع مطلع السبعينيات، ذات أهداف محددة، وباستراتيجيات متكررة، وبتقنيات أولية. ومع الفشل المتكرر فى مواجهة العنف الدينى، وجدنا أنفسنا أمام عنف يهدد البلاد والعباد، عنف يعطى لنفسه الحق أن يقرر وفق قانون همجى حق التصرف فى الأرواح والممتلكات والأعراض، بعيدا عن الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية. والمروق على كل المؤسسات الإنسانية التى صنعها الإنسان لتنظيم العلاقات بين البشر فى حياتهم اليومية، وفق الشرائع فى رحابتها والحقوق الإنسانية المتنوعة والمنطق والقوانين. إنها عودة لطغيان البربرية على الإنسانية، وفق أفكار مُجتزأة من سياقاتها، ومنحازة لمشروع ضيق/ مغلق جدا. ما يذكرنا بصلاح عبدالصبور فى مأساة الحلاج... كيف؟
«5»
ففى مأساة الحلاج، شُكل قضاء استثنائيا لمحاكمة الحلاج: «الإنسان الفقير والزاهد والباحث عن الحقيقة والعلم والمعرفة ولقمة العيش الحلال والمدافع عن العدل والمناضل والطامح للتحرر من الخوف...». مجلس قضاء كان بحسب المسرحية: «مجلس حكم مخصوص، وله تقدير مخصوص، ينظر فى أمر مخصوص»، فكان: «الحكم المأساة»: الموت!
«6»
بنفس المنطق، شكل «الأمشيريون» مجلسهم، وقدروا، ونظروا فى الأمر: فنحروا الأب وابنته، وقرروا طرد مواطنين مدنيين عزل من أرضهم.. إنهم الدولة الأمشيرية الموازية.. فماذا فعلنا؟ تركنا الأخبار تتداول على مدى أسابيع دون تدخل حكومى. وانشغلنا بتوصيف ما جرى هل هو «تهجير»، أم «نزوح»، أم خروج مؤقت، أم أسر وافدة إلى مكان جديد. هذا ناهيك من التعاطى مع هذه الأسر بصفتها الدينية، فيتم تقديم تقرير عنها إلى كبيرهم من قبل الوزير الأول، كما لو كنا فى الدولة العثمانية. ويتم الاكتفاء ببيان رسمى يخرج من الكيان الدينى فقط يفترض مسؤوليته المدنية عن هذه الفئة. والمفارقة أن كل ما سبق يصب فى الدولة الدينية الطائفية التى هى مرجعية الأمشيريين. هل توقف أحد عند هذه اللقطة؟!
«7»
وتؤكد ردود الأفعال أنه لولا المبادرات الفردية، ما كان يمكن التخفيف من حدة الواقعة. يا سادة، ما جرى هو أمر جلل. إنه تهديد وجودى حدودى، يحتاج إلى مواجهة وطنية شاملة.
إن الدلالة الرمزية لما حدث تستوجب تشكيل آلية عليا للمواجهة. تحصر المتضررين بدقة، ولا يترك الأمر للتقديرات العشوائية التى يكون بعضها مقصودا للتأثير المعنوى. كما تحصر احتياجاتهم. وتتلقى المساعدات، وتقوم بتوزيعها، وفق معايير علمية منضبطة.
لكن الإيجابى هو مبادرات التحرك الطوعية الوطنية التى لمستها فى عدد من الوزراء والمجتمع المدنى.
كذلك هذا الإحساس الوطنى بجسامة ما حدث وسخف التحاليل التى تردد أن ما جرى هو عقاب للمسيحيين على موقفهم من 30 يونيو الذى كان موقف الكثيرين من أبناء مصر.
«8»
لم يعد أمامنا اختيار، فلابد من مواجهة غبار أمشير. لابد من أن يأتى الربيع، وأن يعود حق الشهيد، وأن يعود النازح إلى أرضه... نواصل.