نشرت «المصرى اليوم»، الأحد الماضى، تحقيقاً فى غاية الأهمية حول «قنوات بير السلم» وتردداتها. حيث دقت الأستاذة سارة نورالدين فى تحقيقها المتميز، والذى قامت بإعداد صوره، جرس إنذار متعدد المستويات يتجاوز الموضوع فى ظاهره إلى ما هو أعمق. فالظاهر والمباشر هو أن هناك أقماراً صناعية تم إطلاقها مؤخراً وأصبحت تنافس شركة «النايل سات». ما أثر على أرباحها بدرجة لافتة. وأن هناك شركة «أوف شور» تؤجر ترددات فضائية لقنوات «بير السلم». ما يكبد «النايل سات» الخسائر. إلا أن القراءة التفصيلية والمتأنية لما وراء الظاهر: «الخفى»، تكشف لنا عن ما هو أخطر وأشرس ويمثل تهديدات حقيقية على مصر وأمنها القومى.
(2)
من الأمور التى كشفها التحقيق نعدد ما يلى.. أولاً: التحايل على القوانين. ثانياً: التواطؤ الداخلى لصالح الخارج. ثالثاً: التلاعب فى صياغة بنود العقود المنظمة للعلاقة بين مصالح مصر والأطراف الخارجية. رابعاً: هيمنة الذهنية البيروقراطية فى عدم الإعلان عن العقود بصورة شفافة للمواطنين. خامساً: تغييب الجهات الرقابية عن مراجعة التعاقدات والإجراءات التى تتعلق بالصفقات والامتيازات المهمة فى الحقبة التى سبقت حراك 25 يناير. وعدم الالتفات لأى ملاحظات أو تحفظات وردت من الجهات الرقابية. سادساً: الخفة بتقدير ما قد يلحق على هذه الصفقات من أضرار بمصر واقتصادها ومصالحها وأمنها القومى. سابعاً: تكون شبكة امتيازات مغلقة خارج الرقابة والمراجعة والمحاسبة. شبكة تتصف بأنها تجمع بين الداخل والخارج. «داخل- خارج: حكومى وغير حكومى/ داخل مصرى- خارج عربى وأجنبى».
(3)
«سبع ضلالات» كبرى، يمكن استخلاصها من هذا التحقيق المفزع، والذى يعكس كيف كانت تدار مصر. ما دفع الملحقة الاقتصادية الأمريكية، كاثرين هيل، تقول فى يوليو 2007، تعليقاً على التعاقد الرسمى الذى أبرمته مصر عبر النايل سات مع إحدى الشركات الأوروبية لنقل القمر هوت بيرد 4 إلى مدار سبع درجات غرباً المملوك حصرا إلى مصر، بأنها «تشتبه فى فساد وتلاعب بصفقة التعاون المبرمة».. (فى هذا السياق، أظن أن العديد من العقود التى أُبرمت خلال العقد الأول من الألفية الجديدة تستحق المراجعة وإعادة النظر).
(4)
الحصاد المادى للضلالات السبع السالف ذكرها تشير إلى ما يلى.. أولاً: خسائر بملايين الدولارات نظراً للانسحاب من القمر الوطنى الذى مع الوقت سوف تنفض عنه القنوات كما سيفقد الترددات التى يملكها. ثانياً: خسائر غير مباشرة بملايين الدولارات نظرا لتشكل أسواق دعاية وإعلان موازية وغير رسمية تحصل على إعلانات ولا تدفع عنها ضرائب. ثالثاً: نقل كل المنافع إلى خارج مصر. رابعاً: التورط فى إفساح المجال لأن تكون الأدوات الإعلامية المصرية عنصرا فى عمليتى غسل الأموال وتجارة الأسلحة العابرة للحدود. إن الأسماء المذكورة فى التحقيق والمتورطة فى قضايا دولية من النوع الثقيل تدفعنا أن نقول: «هو إحنا كنا فين». بحسب ما فعل بطل فيلم «ملك وكتابة»، الذى جسده العبقرى محمود حميدة، عندما استفاق وقال: «أنا كنت فين الوقت ده كله».
(5)
وغير المقدر، وبعيداً عن دنيا المال والمضاربة والمتاجرة التى تتسم بالفهلوة والشطارة هو الآثار الثقافية السلبية الناتجة من إعلانات ومواد إعلامية هابطة ومتخلفة تدور كلها حول الدجل والشعوذة والخرافة. ما يحتاج إلى دراسة تفصيلية حول الذى أنفق من مال للصرف على «ساعات بث سوداء» لكل ما هو ضار لعقل المواطن المصرى وشده إلى مساحات من الجهل والخرافة. بالإضافة إلى تسويق أدوية ضارة بالصحة. وأغذية وأجهزة مجهولة. كل هذا بعيداً عن كل الجهات المعنية فى رقابة ومتابعة كل مكون من مكونات العملية الإعلامية الكارثية.
(6)
وبعد، تحية للمحققة البارعة سارة نور الدين.. التحقيق يعكس ما آلت إليه مصر ودفع إلى حراك 25 يناير وما تلاه.. إن أى مشروع تنموى مستقبلى لا يمكنه أن يتعايش مع ممارسات الظل الخفية.. نواصل.