لم تزل قضية «اللامساواة»؛ هى القضية الرئيسية التى تشغل بال الإنسانية فى الوقت الراهن. فمنذ أن نشر توماس بيكيتى فى 2013 مجلده التاريخى الضخم: «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين»، انتفضت الأوساط الأكاديمية، والبحثية، والسياسية، والثقافية العالمية، لمقاربة قضية «اللا مساواة» لتفاقمها المطرد ليس فقط فى الغرب، وإنما على المستوى الكونى. ونتيجة لهذه الانتفاضة، صدرت فى 2016 عشرات المراجع المعتبرة التى تعيد النظر فى الكثير من النظريات والأفكار التى تم ترويجها تحت مظلة «الليبرالية الجديدة» منذ مطلع الثمانينيات وإلى
يومنا هذا. بالرغم من تعرض العالم نتيجة الأخذ بهذه الليبرالية التى باتت «عتيقة» لمائتى أزمة اقتصادية ومالية متفاوتة القوة.. مراجع متنوعة تعالج «اللامساواة» من زوايا عدة تحاول التأسيس لحياة عادلة لجميع المواطنين بأفكار مبتكرة جديدة. وفى هذا المقام جرت- ولا تزال تجرى- مراجعات كثيرة مست الكثير من الأفكار التى سادت لعقود.
(2)
فى هذا السياق، نشير إلى مرجع هام صدر فى العام المنصرم هو «اللامساواة الكونية Global Inequality»؛ لمؤلفه «برانكو ميلانوفيش». وهو الخبير الاقتصادى الأول فى مجموعة بحوث التنمية فى البنك الدولى. وأستاذ زائر فى كلية السياسة العامة فى جامعة ميريلاند الأمريكية. حيث ينطلق فى كتابه من سؤالين محددين أولهما: ما سبب اللا مساواة؟ (المطردة والمتنامية). وثانيهما: أى اقتصاد هذا الذى يحصر ويركز معظم الثروة فى أيدى 1% من البشر سواء فى داخل الدولة الواحدة أو فى إطار المنظومة الدولية؟.
(3)
وتأتى إجابة برانكو على هذين السؤالين حاسمة. حيث قام بدحض كثير من التصورات الاقتصادية التى هيمنت على الفكر الاقتصادى فى الأربعين سنة الأخيرة، وتحكمت فى التوجهات الاقتصادية عمليا. فكشف عن أن ما أطلق عليه: «دورات اللا مساواة» المتعاقبة قد عادت بالبشر فى كل مكان، إلى الوراء مئات السنوات. ولم «تفلت» دولة من التعرض لهذه الدورات. والأهم أنه بقدر ما تتجه الدولة بالمبالغة فى الأخذ بسياسات اقتصاد السوق بقدر ما غابت العدالة.
(4)
نعم تعددت الأسباب ولكن النتيجة واحدة. هكذا يشير رصد برانكو. ففى الولايات المتحدة، ونتيجة التراجع النسبى للتعليم، ظلت نسبة العمالة الماهرة ثابتة. ومن ثم تفاوت الأجور بين الشرائح العاملة وازدياد الفجوة مع مرور الوقت. كذلك يرصد المؤلف ضعف الكيانات الممثلة للعاملين والمنوط بها الحفاظ على الكفاءة المهارية للعاملين ومنع حدوث الفجوات المالية والتفاوتات الاجتماعية بين البشر. كما يرصد دور النظام الضرائبى التصاعدى فى ضبط الاختلالات التوزيعية بين المواطنين فى بعض الدول. حيث إن غيابه كان عاملا مباشرا فى حدوث اللا مساواة الخانقة. ويرصد أيضا دور الشللية الاجتماعية والعولمة وغياب الوعى السياسى كعناصر تميز شرائح على شرائح بفعل النفوذ السياسى، أو ميزة التواصل الخارجى، أو التشابك الاجتماعى.
(5)
ويعمق برانكو ميلوفيتش جهده بمراجعة النظريات الاقتصادية التى شكلت جوهر المناهج الاقتصادية التى تبرر سياسات الليبرالية الجديدة. بداية مما طرحة «سايمون كوزنتس» (صاحب منحنى U المقلوب)، حول «تقلص الفجوات». ففى البدء تحدث اللامساواة نتيجة تميز البعض. ولكن مع الوقت تضمحل التفاوتات. إلا أن الواقع يقول بعكس ذلك. كذلك دحض نظرية صمويلسن وأولين، حول أن زيادة اندماج الدول الفقيرة فى التجارة العالمية فإنها سوف تتخصص فى إنتاج سلعة ما، ما يميزها تنافسيا. ما يزيد الطلب على السلعة ومن ثم أجور العمالة التى لا تكون ذات مهارة عالية مما يضيق من التفاوت بينها وبين العمالة الماهرة بعض الشىء. بيد أن الأرقام قد أثبتت عدم تحقق هذه الأفكار. بل على النقيض انتشرت اللامساواة وامتدت إلى كل مكان على ظهر الكوكب الذى بات يعيش حالة متنامية من «اللامساواة».
(6)
فى هذا السياق، يتعرض المؤلف، تفصيلا لكثير من دول العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، الهند، مجموعة الدول التى خرجت من المنظومة الاشتراكية،...، إلخ. ولا يعتمد المؤلف على الاقتصاد ومنحنياته وأرقامه وإنما يستند إلى مقاربة شاملة متعددة الأبعاد تتضمن: علم الاجتماع، العلاقات الدولية، السياسة،...، إلخ. ويطرح تصورا «راديكاليا» لتجاوز اللامساواة يعتمد بداية على النموذج التنموى المستقل كما سلكت كل من الهند والصين. الكتاب يثير الكثير من الأفكار. ويوجه الكثير من النقاشات الدائرة.. نواصل.