(1)
للوهلة الأولى، قد يظن البعض، أن العنوان الذى أقصده هو «مصر تتحدث عن نفسها»، قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم، البديعة، والتى تغنت بها أم كلثوم الصوت المصرى الأسطورة، على موسيقى السنباطى الشامخة. حيث العمل فى مجمله عندما تسمعه تجده بالفعل مسكونا بمصر وبأمجادها.. بيد أن ما قد يظنه القارئ الكريم حول العنوان وأننى أقصد «تتحدث» لا «تبحث»، سوف يجد أن العلاقة وثيقة بين الكلمتين. فلا يمكن أن يتحدث المرء عن أمر ما لم يكن قد حدث بالفعل، أو جار حدوثه، أو يتم إعداد المسرح له. وهو ما يحتاج منا إلى بحث عميق وتقييم لأثر نضالات المصريين، واستجابة كل الأطراف لحصاد هذه النضالات. أى البحث عن عناصر ومكونات ما يمكن أن نتحدث به عن مصر.
(2)
يبدو لى المشهد المصرى الراهن فى حالة من «العبثية» التى قد تؤدى بنا جميعا دون تمييز إلى «التهلكة». فالفكرة ونقيضها تجدها حاضرة فى نفس الوقت وبنفس القوة. قد يكون هذا مفيدا عندما يكون الحوار السائد فى «حالة جدلية»، بالمعنى الفلسفى. أى أن الأطراف المتحاورة لديها من «السماحة الفكرية» ما يجعلها تقبل باختبار الأفكار المتناقضة. وبالنتيجة، تنتج أفكارا جديدة تكون محلا للرضا من قبل المختلفين. إلا أن السائد فى المشهد الساسى الراهن هو: «الإصرار على أن ينفى بعضنا البعض». على طريقة «من ليس معى فهو ضدى». أو بلغة شاعر النيل فى قصيدته «مصر تتحدث عن نفسها» ما نصه: « نحن نجتاز موقفا تعثُر الآراء فيه وعثرة الرأى تردّى».. إنه نفس الموقف الذى اتخذته الجماعة عندما أرادت «الاستئثار» بالسلطة وإقصاء الآخرين والتحلل من الشراكة الوطنية التى لولاها ما كانت 25 يناير التى تمثل جبهة سياسية ضد الاستبداد السياسى. وذلك من خلال الإعلان الدستورى الاستبدادى النوفمبرى (2012) والذى عرفنا أنه صدر ليكرس «شرعية الإكراه».
(3)
هل من المقبول أن يتحول التنافس الانتخابى إلى معركة بين حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو. وإذا قبلنا ذلك على مضض باعتبار أن هناك من تضررت مصالحه كونه كان عضوا فى شبكات الامتيازات التى نسجت قبل 2011 ومن ثم يحاول تجديدها. فماذا عن التحارب الجارى بين أنصار التيار الواحد. حيث تتم تصفية الحسابات بين الأطراف التى شاركت فيما عرف بتحالف 30 يونيو. وهو ما بدا مبكرا فى صيف 2013 وحذرنا منه آنذاك، وبات واضحا فى المعركة الانتخابية التى بدأت الأسبوع الماضى جولتها الأولى. حيث سارع حلفاء الأمس فى إطلاق النار بقلب بارد على بعضهم البعض. الأخطر أن بعض الأطراف أطلق النيران وهو يستقوى بالقوة والمال. وقام بممارسة السياسة بمنطق «حصد المغانم». ونطرح السؤال الذى طرحه حافظ إبراهيم فى «مصر تتحدث عن نفسها» ما نصه: «أمن الحق أنهم يطلقون الأسد منهم وأن تقيد أسدى».. والردىء، هو التعامل مع أحد إنجازات الإجماع الوطنى العظيمة الذى تحقق فى مواجهة «الجماعة» أو الاستبداد الدينى. بأن يبتلع البعض، البعض الآخر. أو ما وصفناه بـ«الوطن يواجه الجماعة»، وهو تعبير ساد وانتشر. والأخطر هو تشويه «سنوات الحراك»، وقصها من الذاكرة التاريخية باعتبارها سنوات فوضى وتأخر. وكأن سنوات ما قبل 25 يناير كانت سنوات رخاء واستقرار.
(4)
نحن لم نتعلم بعد تقييم مراحلنا التاريخية بموضوعية وعلم. ورصد ما لها وما عليها. فلقد تعودنا على أن نشوه نضالات المصريين ذات الدوافع المركبة: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية والحضارية. ونختزلها فى إنجازات الحكام. والجديد هو حضور المال كى يعيد كتابة التاريخ على هواه وبما يخدم مصالحه. ولكن نذكّر مرة أخرى بقول شاعر النيل التالى: «أمن العدل أنهم يردون الماء صفوا وأن يكدّر وِردِى».. ما يعنى أنه لا يمكن لأى طرف أن يتحقق له ما يريد على حساب الشراكة الوطنية، فى مجتمع يعانى من اختلالات وتفاوتات بنيوية على كل الأصعدة. ما يحتاج منا إلى تكاتف وتضامن لبحث كيف يمكن لنا علاج ما أصاب عمارة الوطن من تصدعات وشروخات.
(5)
أتمنى من كل قلبى، أن نجتهد جميعا فى أن نبحث من أجل مصر، عن أنفسنا. ماذا أنجزنا؟ وفى ماذا أخفقنا؟ وأن نواجه الواقع بكل جرأة؟ وأن نسمى الأمور بمسمياتها دون تزويق أو تجميل؟ وعدم الاستغراق فيما أطلق عليه «سجالات الغلوشة» أو تحويل النظر، وتغليب النظرة العلمية الصارمة فى تقييم قضايانا العالقة منذ عقود. والالتزام بالحلول الجذرية لا التسكينية. وعدم استعادة سياسات ثبت فشلها، الأهم أنه تم الانصراف عنها دوليا.. بحق الشهداء والمختفين أرجو ألا نغتال المستقبل لحساب أسوأ ما فى الماضى.. وليكن شعارنا: «يجب على مصر(نحن) أن تبحث عن نفسها».
ونختم بقول حافظ إبراهيم: «أترانى وقد طويت حياتى فى ميراث لم أبلغ اليوم رشدى»…«فقفوا فيه وقفة الحزم وارموا جانبيه بعزمة المستعد».. ونواصل…