«نجح فؤاد حداد فى إكساب شعر العامية المصرية قيمته الفنية الخاصة التى سبق للصناعة أن استلبتها منه، كما سبق للذائدين عن حرمات الشعر الرسمى أن حرموه من حق الاعتراف له بها. ومن ناحية أخرى قام فؤاد حداد بدور لا يقل أهمية وخطورة عن تأصيل العناصر الجمالية فى شعر العامية المصرية، هو إكساب مضمونه الفنى أبعادا إنسانية جديدة زاخرة بالوعى الاجتماعى»، هكذا كان رأى غالى شكرى فى شعر فؤاد حداد، وأظنه عبر فى هذه العبارات القصيرة عن الثورة التى قام بها، مع رفيق الكفاح صلاح جاهين، إلى العامية المصرية. فى هذا السياق، انحاز فؤاد حداد للناس وللفقراء. وكيف لا ينحاز وقد عاش حياته مناضلا من أجل إقامة العدل لهم. لذا نجد شعره وقد جاء معبرا عن نضاله، محررا العامية المصرية من كل ابتذال وقولبة ومحدودية. ومن ثم توحد مع المشروع الثورى لناصر. فكان شعره من جهة، وخطابات ناصر من جهة أخرى، فى توافق بغير تبعية. هذا ما توصل إليه، ومن خلال النصوص المتعاقبة: الشعرية، والسياسية لكل من الشاعر والرئيس (حداد وناصر)، الدكتور سيد ضيف الله فى كتابه الشيق والمتعدد، مستويات البحث والحقول المعرفية: «صورة الشعب بين الشاعر والرئيس ـ كتب خانة 2015»، وعرضناه فى مقالنا السابق…ولكن ماذا عن صورة الشعب فى الخطاب السياسى للرئيسين السادات ومبارك؟ وكيف كانت استجابة الشاعر لهذين الخطابين؟
(2)
نشير بداية إلى أن فؤاد حداد قد كتب ديوانين شعريين خلال فترة حكم السادات (1970 ـ 1981) هما: «كلمة مصر، 1973 ـ 1975»، و«على أعتاب الحضرة الذكية، 1976». ويوضح الباحث، فى تقسيم هام للغاية، كيف تنقل الخطاب السياسى الساداتى فى ثلاث مراحل هى: أولا: مرحلة الخطاب السياسى الذى يعد امتدادا لخطاب ناصر. ثانيا: الخطاب السياسى الذى كان يستلهم نصر أكتوبر. ثالثا: خطاب ما بعد أكتوبر. ففى المرحلة الأولى: كان السادات يؤكد على أنه يأتى إلى الشعب «على طريق ناصر» كذلك على شرعية الحراك الجماهيرى الهادر فى 9 و10 يونيو الرافض للهزيمة باعتباره «أبوالتاريخ ومحرك التاريخ وصانع التاريخ» ومصدر الإلهام. وفى المرحلة الثانية: بدأ يرى الشعب باعتباره «جماهير 14 و15 مايو» الذين صنعوا «ثورة كاملة…لم تكن ثورة مضادة، ولكنها ثورة من أجل تصحيح مسار الثورة الأم». أما المرحلة الثالثة: فلقد شهدت تحولا جذريا من حيث تكريس السادات مسؤولا عن الشعب وأمينا عليه فهو الرئيس المؤمن الذى لا يسألُه إلا الله. والرئيس الأب بالمعنى الأبوى. وفى نفس الوقت ارتد بالخطاب السياسى إلى التمييز «وإقامة التناقض» بين الجماهير، الذين صاروا «أهل الريف…الذين يعرفون العيب» بالمعنى القيمى وليس الفلاحين بالمعنى الإنتاجى، وبين الأفندية (الخصوم السياسيين) «الذين بلا قيم»…ماذا كان رد فعل فؤاد حداد؟
(3)
افتقد حداد ناصر ليس فقط على مستوى الفراق الإنسانى. وإنما لشعوره بأن هناك تحولا ما قد صار فى الأفق السياسى. فيقول حداد: «فين طلتك فى الدقايق تسبق المواعيد» (ديوان المسحراتى). حيث ناصر هو من يأمر «لى بحقوقى وهدوم الولاد فى العيد/ والمجانية ومرايل بيضا والأناشيد»…ومع مرور الوقت أيقن الشاعر أن الواقع السياسى قد بدأ يسير فى مسار مغاير. فبالرغم من فرحته بنصر أكتوبر بقوله: «أجمل ما فى الدنيا/ أكتوبر اللى انتقم ليونيه»…كما قال: «إلى 10 رمضان 6 أكتوبر/ شوق أيام وأجيال كثيرة/ الحقيقة الخالدة/ كالشمس التى لا تغيب أبدا/ فعرفنا أن مصر الحق/ وأن التاريخ والأسطورة واحد/ والجيش والشعب واحد» (ديوان كلمة مصر)…إلا أن «الصدمة من جراء التحولات العنيفة» التى لم تكن فى صالح الشعب قد دفعت حداد فى ديوان: «يضرب على الوجيعة ويلاقى ع الطبطاب: قصيدة على قلبها لطولون»، يقول مقاوما على لسان الشعب الحاكم متمثلا فى الخديو إسماعيل الآتى: «حيلك/ فوق لنفسك يا إسماعيل باشا/ شوف اللى بيكلموك/ ياما تاووا قبل منك ملوك/ شبيحة زيك شمحطية وهباشة/ حتروح من الشعب فين/ إلا ترحل بكره لاسطنبول/ وإحنا نتملك هنا على طول/ على قلبها لطولون إحنا»…
(4)
ومن أجمل ما يرصده سيد ضيف الله فى عمله الممتع، هو حيرة الشاعر تجاه ردود فعل الشعب التى تراوحت ما بين الانكسار والانتفاض. وهو ما انعكس على شعره الذى مال إلى السخرية فنجده فى «عيل على المعاش»، يقول: «ماشى يا ماشى/ لأمش ماشى/ الشعب المكسور الهادر/ الشعب الكسار الهادر/ مش قابل منى التضحية/ رفع لواء الثورة/ فثار على طيبتى/ وعلى عدل مزاجى»…وهكذا يمضى فى رصد التحولات التى طرأت على السلطة حيث وجدها تتناقض كلية مع ما سبقها. كذلك التحولات التى طالت الشعب والتى وجدها تجمع بين التناقضات. ولم يجد أمام شاعرنا إلا أن يستمر فى السخرية مقاوما، وقائلا: ويؤكد فى «عيل على المعاش»: «من يعرف الحقيقة/ع الفرشة لم يبات/ أنا القلب السليم/ الموجوع الأليم/…الأوله يا قهر/ والثانية السر جهر/ والثالثة لما أجهش/ قامت كل الجروح/ ترقص بشكل أدهش/ التعبان الناياتى»…
(5)
يبدو، ومن خلال النصوص التى أوردها سيد ضيف الله، أن شاعرنا قد أعيته هذه التحولات فأبدع شعرا فى «ميت بوتيك» ملخصا اللحظة التاريخية بقوله: «فيه راجل مش أبى/ ولا كان يشبه أبى/ فعل الفعل القبى»…وبهذه الكلمات عاش حداد السنوات القليلة التى بقيت من عمره زمن مبارك…فما طبيعة الخطاب السياسى الجديد؟ وماذا أبدع حداد؟…ونواصل…