(1)
وصف مصر والعالم بات ضرورة ملحة. ففى كثير من الأحيان أشعر أننا لا نعرف عن أنفسنا ما يجب أن نعرفه. ويقينا هناك فجوة معرفية ـ حدث عنها ولا حرج ـ حول جديد العالم فى شتى مجالات المعرفة. من هنا بدأنا هذه السلسلة حول «وصف مصر والعالم بالمصرى». وأشرنا فى الحلقتين السابقتين إلى أنها مهمة جديرة بأن تكون «مشروعا قوميا بامتياز»، ذلك لأنه لا يمكن أن نبلغ التقدم ما لم تكن لدينا «خرائط معرفية متنوعة». شريطة أن يكون ذلك بأيدينا. وللتدليل على ما سبق أشير إلى أمرين ـ بالصدفة ـ حدثا مؤخرا، يصبان فى الاتجاه الذى نتحدث عنه.. تستدعى أن «ننشط ذاكرتنا ونجدد معرفتنا»…
(2)
الأمر الأول؛ فى إطار احتفالاتنا بالقنال. كان هناك اجتهاد فى استدعاء كتابات تاريخية حول قناة السويس أو الإحالة إليها. وهو أمر محمود ولا شك. إلا أن ما لفت نظرى هو التركيز على كتابات بعينها دون غيرها مثل استدعاء ما كتبه عبدالرحمن الرافعى فى الأغلب. مع بعض الكتب السيارة التى صدرت فى لحظات سياسية تاريخية ولكنها لا ترقى لأن تكون مرجعا يستند إليه. فمع تقديرى التام لجهد الرافعى فإن المدرسة التاريخية العلمية ـ فيما أظن ـ قد تجاوزته كثيرا. وفى هذا المقام، لابد من مراجعة ما كتبه لويس عوض فى مقدمة كتابه العمدة: «تاريخ الفكر المصرى الحديث: من عصر إسماعيل إلى ثورة 1919». فمن جهة لم يستطع أن يقترب من إسماعيل إلا بعد باب أول عنوانه: «ملحمة القناة»، من أهم ما كتب فى هذا المقام. ومن جهة أخرى قدم نقدا علميا لما كتبه الرافعى، واضعا قواعد علمية للكيفية التى يجب أن يتم بها التعامل مع المصادر. فى هذا السياق كيف لا يكون مصطفى الحفناوى حاضرا بموسوعته «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة». والحفناوى ـ بالمناسبة ـ هو العالم الجليل الذى بحث عنه ناصر باعتباره مصدرا ومرجعا لقناة السويس لابد من الرجوع إليه واستشارته قبل تأميم القناة. وعليه أحضرـ بالبيجاما ـ كما جاء فى فيلم ناصر 56 للمبدعين محفوظ عبدالرحمن ومحمد فاضل.. وهى واقعة تعكس فيما تعكس كيف لجأت السلطة إلى العمل العلمى «الصح» ورجعت إلى الشخص «الصح».. وكذلك لم نجد أى حضور للكتابات المعاصرة التى اجتهدت حول تطوير قناة السويس مثل ما كتبه العالم الجليل الدكتور محمد رياض،.. إلخ… ونشير أيضا إلى الكم والكيف الذى كتب حول القناة فى الأدبيات الغربية وبخاصة فى الذكرى الخمسين لتأميم قناة السويس. وهو ما عاينته بنفسى فى عديد من المكتبات الدولية آنذاك. ما يؤكد أهمية وجود خريطة معرفية حول اجتهادات المصريين والعالم حول ملف حيوى مصرى.. ولا يفتنا أن نثمن استحضار جمال حمدان فى الخطاب الرسمى لافتتاح القناة…
(3)
الأمر الثانى؛ يتعلق بتنظيم منتدى مصر الحضرى الأول للقاء حول «سياسات التطوير الحضرى». حيث كان من بين الحضور السيدة كريستين أوكلير مدير مشروع الحملة الحضرية العالمية بالأمم المتحدة. وقد قامت جريدة الأهرام بإجراء حوار معها (أجرت الحوار الأستاذة هند السيد هانى)، واستوقفنى ما قالته الخبيرة ردا على سؤال مهم نصه: «نحن نخطط لبناء عاصمة إدارية جديدة فى شرق القاهرة، كيف ترين آفاق هذا المشروع وهل سيكون جزءا من الحل؟»… كانت الإجابة كما يلى وبحسب العلامات التى وردت بالصحيفة: (سأتحدث هنا على المستوى الشخصى وليس باسم الأمم المتحدة، ما أعتقده أنه لابد من الحذر. ففى الماضى رأينا برازيليا فى البرازيل، ورأينا نموذجا فى الهند لنقل الكيان الإدارى لعاصمة أخرى، وأيضا أبوجا فى نيجيريا. وهو قد يزيد من حركة الانتقالات وتكلفتها بين العاصمة الإدارية والعاصمة الاقتصادية. لابد من التفكير بشكل إقليمى يمنح كل المدن المصرية القدرة على النمو بشكل لامركزى.. بعيدا عن أى خلفيات سياسية أو تقنية. فإن ما استوقفنى هو أن الإجابة على اقتضابها تفتح مجالا للبحث والمعرفة عن جديد العالم فى المجال التنموى بصورة عامة والتنمية الحضرية بصورة خاصة. بالإضافة إلى أن الإجابة قد مست الكثير من القضايا من عينة: التوزيع التنموى العادل بين الجهات، واللامركزية، خبرات الآخرين وهل لدينا توثيق معرفى بها وما هى الدروس المستفادة منها،.. إلخ. وبالطبع لن أتحدث عن مدى التشابك بين القضايا. فلم تعد هناك قضية تقنية أو فنية محض. فها هى الخبيرة تناقش قضية تبدو «تقنية» ولكنها تمس قضية التحول الديمقراطى من خلال اللامركزية، وكذلك المواطنة وفى القلب منها المساواة من زاوية العدالة التنموية.. إلخ. وهو نهج يحتاج إلى حديث تفصيلى آخر بعد أن ننتهى من هذه السلسلة…
(4)
صفوة القول: تنشيط الذاكرة الوطنية مدخل مهم لوصف مصر من أجل التقدم: الإبداعات، والكفاءات، والخبرات،.. إلخ. وعلى التوازى، لابد من العمل على تجديد المعرفة التى ابتعدنا عنها بما أقدره بأربع أو خمس موجات على الأقل.. ونواصل…