مياه النيل وحياة المصريين

مساء يوم الجمعة الماضى.. فتحت التليفزيون لأتابع الأخبار.. وبعد عدد من الأخبار بدأت مذيعة النشرة المصرية تقرأ بفتور شديد خبر توقيع أربع دول من دول منابع النيل لاتفاقية «إطار عمل» لتنظيم الاستفادة من الموارد المائية لنهر النيل فى غيبة مصر والسودان.. ومر الخبر مرور الكرام.. وتوالت الأخبار فى النشرة.. وجلست لفترة أمام التليفزيون فى انتظار أى تعليق من أى نوع.. ولكن لا حس ولا خبر.. بيد أن هذا الخبر -المتوقع- أثار لدى الكثير والكثير.

(1)

بداية نرصد أنه منذ أن تم تداول الخبر فى وسائل الإعلام، أى منذ يوم الجمعة، لم يحظ هذا الخبر بأى حوار جاد فى أى من برامجنا الحوارية الكثيرة والشهيرة ولم تتوفر أى مساحة زمنية للحديث عن دلالة الخبر وتداعياته فى الوقت الذى تُفرد فيه الساعات لموضوعات لا توصف إلا بالهامشية.. ولكن اقتصر الأمر على التغطية الصحفية الروتينية، والتى تراوحت بين التطمينات الحكومية والتحذيرات السياسية والفنية.. لقد كنت أتصور أن يخلق ما حدث حالة من الاهتمام والانشغال.. ولكن كما هى العادة لا نعطى القضايا الحيوية ما تستحقه من اهتمام.

(2)

فمنذ عقود، تعودنا ودأبنا عندما يتردد أى حديث عن مياه النيل.. أن نقول -وبجدية شديدة- إن موضوع مياه النيل هو ملف أمن قومى.. وهو كذلك، بسبب أن المصدر الرئيسى للمياه بالنسبة لمصر هو نهر النيل.. وعليه يجب تأمين هذا المصدر وتدفق المياه لتلبية احتياجاتنا الوطنية المختلفة.. والاستعداد لمواجهة كل ما من شأنه تهديد حقنا فى مياه النيل باعتباره أمناً قومياً.. بيد أن ردود الأفعال التى نراها أمامنا فى مواجهة مواقف دول منابع النيل فى محاولتها لإعادة تنظيم الموارد المائية تثير الكثير من التساؤلات حول العديد من الموضوعات التى تحتاج إلى مراجعة.

(3)

من هذه الموضوعات -أتصور- أننا فى حاجة إلى مراجعة سياساتنا التنموية فى أفريقيا.. وسياساتنا الخارجية مع القارة الأفريقية فى إطار رؤية استراتيجية شاملة للجغرافيا السياسية من حولنا.. وإعادة النظر فى سياساتنا المائية فى الداخل.. وفى تعديل نمط الزراعة السائد.. وفى سلوكنا المائى اليومى أو ما يمكن تسميته ثقافتنا المائية.. كلها ملفات تستحق المراجعة والتأكد من سلامة تقديراتنا وقدرتها على مواكبة المستجدات ومواجهة التحديات.

(4)

إن ملف المياه نموذج للموضوع المتعدد الأبعاد، والذى ما إن يفتح حتى نجد أنفسنا أمام العديد من الموضوعات.. فمياه النيل تجبرنا على التطرق لنمط الزراعة.. وعلى الحديث عن السياسات التنموية فى الداخل المصرى وفى الخارج الأفريقى.. بل وأقول إن ملف مياه النيل نجده يقترب من قلب المسألة الديمقراطية من حيث الشفافية فى تدفق المعلومات ومشاركة المصريين فى التعاطى مع الملف، وتحمل الجميع لمسؤولياتهم، وعدم بقاء الموضوع فى إطار كهنوتى سرى لا يعرف عنه أحد أى شىء.

(5)

كذلك يقترب الموضوع من السياسة التعليمية، نعم السياسة التعليمية (والتى تحدثنا عنها على مدى الأسابيع الأربعة الماضية) فى دعمها على تأكيد قيمة نهر النيل فى حياتنا حيث تعامل الكاتب الألمانى الكبير «إميل لودفيغ» مع نهر النيل «كإنسان» فترجم سيرته مثلما يكتب سير العظماء حيث يكتب: «لاح النيل له كعظماء الرجال»، فأخذ «يستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته المقدر»، فبين كيف «أن الوليد، وهو يتفلت من الغابة البكر، ينمو مصارعاً ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافراً…إلخ».

(6)

إن الحديث عن مياه النيل كأمن قومى يعنى أن ينعكس ذلك -فى ظنى- فى مناهجنا التعليمية.. ألا يستحق نص لودفيغ (يقترب من 900 صفحة من الحجم الكبير) أن يتم اختيار بعض من مقاطعه ليتم الاستفادة منها سواء فى منهج اللغة العربية أو فى منهج الدراسات الجغرافية.. وهنا تجدر الإشارة إلى المرجع المهم لعلامتنا الوطنى الكبير شيخ الجيولوجيين رشدى سعيد «نهر النيل: نشأته واستخدامه فى الماضى والمستقبل».. وأذكر هنا الصديقين الدكتور حنا جريس والمهندس رفيق منير وكيف قاما منذ أكثر من عشر سنوات بتقديم هذا المرجع على شرائح كمبيوترية لتعريف الشباب بأهمية النيل فى حياة المصريين.

(7)

الخلاصة، نهر النيل يعنى حياة المصريين.. الأمر الذى يتطلب فتح حوار موسع سياسى وعلمى حوله.. والمفاجأة أنه بمراجعتى لهذا الموضوع وجدت أن هناك الكثير من الأدبيات التى أنجزت فى هذا المقام سواء بعقول مصرية أو أجنبية جديرة بالمراجعة، ربما يكون من المفيد إلقاء الضوء عليها.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern