بهدوء بدأ حديثه معى بقوله: لقد فهمت اجتهادك حول المراحل الأربع التى مرت بها الدولة المصرية منذ الفراعنة وإلى الآن. حيث اتسمت الدولة أولا: بالمركزية المطلقة. ثم وفدت إليها ثانيا: سلطات حكم مركزية وافدة من البطالمة إلى العثمانيين.
وثالثا: دولة مركزية محدثة مع محمد علي. إلى أن ذكرت أنه مع حلول 25 يناير فإنك رصدت دخول مصر فى مرحلة رابعة أطلقت عليها: «اللامركزية البازغة»…فماذا كنت تقصد بهذا المصطلح أو الفكرة خاصة أنك طرحتها باقتضاب شديد وربطتها بحراك 25 يناير. وما أثر ذلك على الواقع ومستقبل التحول الديمقراطى مستقبلا.
بداية، كانت الدولة بالنسبة لكثيرين «الراعى» و«المانح» و«الحاضن». وقد أرجعنا ذلك نتيجة طبيعة نمط الانتاج حيث كانت الدولة هى المالكة للأرض والمديرة لهيدروليكا النهر والمدبرة لحياة البشر. ولكن مع مطلع السبعينيات تم الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة: اقتصاد السوق والخصخصة وتراجعت الدولة عن أداء الكثير من الأدوار. مما نتج عن ذلك تدهور الوضع الاقتصادى للطبقة الوسطى. ويرجع هذا التدهور ويعود هذا التدهور إلى عوامل ثلاثة. «أول هذه العوامل هو انخفاض الأجور. والثاني؛ فقدان فرص العمل وزيادة معدل البطالة. أما ثالث هذه العوامل فيعود إلى زيادة الأعباء المالية التى تتحملها هذه الطبقة». والنتيجة أن حدثت عملية مركبة من الإفقار والإقصاء لهذه الطبقة بمستوياتها الثلاثة للمروة الأولى منذ تأسيس الدولة الحديثة. فمن المعروف تاريخيا أن هذه الطبقة قد ولدت من رحم هذه الدولة كما كانت محل رعايتها وعامل استقرار وتوازن لها. ومع مرور الوقت شعرت الطبقة الوسطى أن من حقها الشراكة فى السلطة أى أن تمارس السياسة من جهة، وأن تشارك فى الثروة بفتح شبكة الامتيازات المغلقة للشرائح الصاعدة من الطبقة الوسطى. ومن ثم توالت حركات الاحتجاج: الفئوية والسياسية والحقوقية فى العقد الأول من الألفية الثالثة.
وتكثفت كل هذه الاحتجاجات فى حركة المواطنين فى يناير 2011 معلنة تحولا نوعيا فى نقل المواطنة من خانة الدعوة/ التبشير، أو رفع الوعى بها إلى موقع «الفعل». بلغة أخرى من «المواطنة الفكرة إلى المواطنة الفعل».
ومنذ ذلك اليوم انطلقت حركية مجتمعية صاعدة قوامها كتل ـ اجتماعية ـ جديدة تحاول أن تعبر عن نفسها بشتى الوسائل من خلال أشكال ووسائل تعبير غير نمطية أو متعارف عليها ومن خارج الأنساق التقليدية.وأن تدافع عن حقوقها بكل السبل. وهذا ما قصدته «باللامركزية البازغة».لا تحدها قيود أو عوائق.إن الحراك الذى جرى فى مصر لم يكن حراكا نمطيا على شاكلة الثورة الفرنسية أو ما تلاها من ارتدادات ثم ثورات أخرى. إنه «حراك مركب»؛ تداخلت فيه عناصر عدة منها : الجيلى، والطبقى، والجنسى. حراك تم على مراحل واتخذ اشكالا مبدعة من الاحتجاج فى ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الرقمية الشبابية أن تؤمن تغييرا غير مسبوق وفريدا. حراك قاعدى أى من أسفل يتجاوز عقودا من المركزية المحدثة، وقبلها قرون من المركزية الوطنية المطلقة ومركزيات الحكم الوافدة.إن طبيعة مرحلة الانتقال تتسم بالتطلع إلى رؤية مطالب الحراك متجسدة عمليا. وهذا يتطلب إدراك أن بنية المجتمع تكون فى حالة حيوية منفتحة على التغيير أثناء النضال من أجل تحقيق المجتمع الديمقراطى المنشود.
وفى سبيل ما سبق، يتحرك المواطنون بإصرار ـ فى كل اتجاه لبلوغ الأفضل الذى يعكس تضحياتهم وانتظارهم وأحلامهم.
فعلى الرغم من أن البعض ينظر بسلبية لما يجرى من سجالات ومشادات تتعلق بإعداد القوائم الانتخابية إلا أن الأكيد هو أن هذا الأمر يحدث فى غيبة حزب حاكم لأول مرة فى مصر منذ ما يقرب من 65 عاما. والأكيد أيضا ألا أحد من المصريين يختلف على حماية مصر والحفاظ على وحدتها وعلى تماسكها الوطنى والمجتمعى فى ظرف إقليمى شديد الحساسية. ولكن فى نفس الوقت لا يمنع هذا من أن يناضل المصريون من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وأن يعلنوا موقفهم ـ ايجابيا أو سلبيا ـ من هذا القانون أو ذاك، ويدخلوا فى مفاوضات مطولة من أجل ضمان تنفيذ أمثل للقوانين.
وقد اثبت الواقع أن المصريين قد باتوا قادرين على التمييز بين الحق والباطل، والجدى والهزلى. فها هم يحتفون بمشروع قناة السويس ويدركون قيمته ويقدرون كل جهد بذل من أجل إنجازه. وفى نفس الوقت ينتقدن أى تقاعس فى مكان آخر. وأن ينظموا الحملات المتنوعة ويبادروا بالدعوة إلى العديد من المبادرات فى شتى المجالات. ولا يمر يوم إلا ونقرأ عن إبداعات شبابية فنية وأدبية وعلمية هنا وهناك تقول أن هناك حركية مجتمعية متجددة ومتنوعة حاضرة بقوة.
حركية علينا أن نستجيب لها بمنطق منفتح. لأن ضمان نجاح الحرب على جماعة التفكيك والتدمير مشروط بالاستجابة المبدعة للحركية المجتمعية المتنوعة… ونتابع..