قليلة هي الدراسات التي تعاطت مع حراك المواطنين الذي انطلق في25 يناير2011, بعمق. فالمسألة أعقد من أن تكون هبة طارئة أو مؤامرة مباشرة أو فوضي عابرة.
فالباحث المدقق للتفاصيل والوقائع التي جرت علي مدي سنوات الحراك سوف يجد زخما مركبا قد نتج بفعل ما جري. شكل هذا الزخم’ لوحة’ فنية تحليلية كبيرة وثرية ذات عناصر تفصيلية متداخلة ومتراكبة. وأي اختزال لها أو اقتطاع منها غير مقبول, لأن النتيجة ستكون غير دقيقة و منحازة وانطباعية وسطحية.
في هذا السياق, يأتي كتاب جلبير الأشقر:’الشعب يريد’, والذي بدأنا في تقديم أهم ما جاء به الأسبوع الماضي. فقدمنا الدلالة العلمية لفكرة’الشعب يريد’ والدوافع التي أدت إلي انتفاضته. وانطلق من هذه القاعدة يبني أطروحته التي تناولت العديد من العناصر منها: أولا: طبيعة الدولة ونظامها الاقتصادي. ثانيا: دور العناصر الإقليمية. ثالثا: القوي الفاعلة في العملية الثورية.
أولا: فيما يتعلق بالدولة ونظامها الاقتصادي;يشير المؤلف إلي أمرين هما: الأول: ريعية ووراثية الدولة. والثاني: محسوبية الطغمة الاقتصادية. فلقد تضافرا معا في اتجاه الدفع بالمواطنين إلي الانفجار…كيف؟ يقول المؤلف:’…إن جزءا هاما من عائدات الدولة في بلدان المنطقة ريعي’. ويدلل علي ذلك بقوله:’ ففي سنة2010, كان أكثر من60% من سكان المجموعة العربية يعيشون في دول مصدرة صافية للنفط(6 دول بالإضافة إلي دول مجلس التعاون الخليجي)…وإذا ما أخذنا في الحسبان تصدير الغاز, ترتفع هذه النسبة إلي85%. وإذا ما أضفنا المعادن أيضا, لوجدنا أن جميع سكان المنطقة تقريبا يعيشون في بلدان تحصل فيها الدولة علي نصيب هام, بهذا القدر أو ذاك, من إيراداتها من منتجات مستخرجة من باطن الأرض( وغير متجددة). إنه الريع’ المنجمي’ بحسب المؤلف. والمحصلة, أنه’ كلما اعتمد تمويل الدولة علي الريع, قل اعتمادها علي السوق الداخلية وقل اضطرارها إلي إخضاع أعمالها لمتطلبات هذه السوق’. في هذا السياق تنشأ رأسمالية ـ تجاوزا ـ مقربة من السلطة تختار بعناية أو ما يعرف:’برأسمالية المحاسيب’ بحسب محمود عبد الفضيل, أو ما عبرت عنه مبكرا’ شبكة الامتيازات المغلقة’, ومن ثم احتجزت غالبية العوائد عندها.
ثانيا: دور العناصر الإقليمية;يشير الكاتب إلي التحولات الكبيرة التي طرأت علي المنطقة علي مدي القرنين الأخيرين والتي أدت في النهاية إلي تغير قواعد اللعبة التاريخية منذ الاستعمار التقليدي. وذلك بمحاولة القوي الجديدة ـ وبالأساس ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ مع قوي أخري, أن تتفنن في إبقاء دول المنطقة في حالة تبعية بشتي الطرق. وتوظيف بعضها في دعم الحركات الاجتماعية الدينية الأكثر تشددا والتي مصالحها الاقتصادية لا تختلف كثيرا ـ وهنا المفارقة ـ عن المصالح الأمريكية. وخاصة أن القاعدة الاجتماعية لهذه الحركات تقوم علي’ البورجوازية الصغري عموما’ أو’ الريفية والهامشية خصوصا’ وهي محافظة وليست ثورية إلا أنه يمكن أن توظف ثوريا في لحظات ما قبل الانهيار. وهي بذلك’ تدافع عن مصالحها الراهنة, بل عن مصالحها المقبلة’.(يفصل كثيرا حول دور أمريكا وقطر والجزيرة والجماعة,…,إلخ, في هذا المقام من خلال تحليل اقتصادي/اجتماعي, وإقليمي/سياسي جدير بالدراسة والمعرفة).
ثالثا: القوة الفاعلة في العملية الثورية; ينطلق المؤلف من مقولة ماركسية ـ كما أوضحنا في مقالنا السابق ـ القائلة: بأن’ التناقض بين تطور القوي المنتجة وعلاقات الانتاج القائمة يولد الثورات’. ويذكر أن أطروحته عبر ما قدم من تحليل تؤكد علي وجود هذا التناقض, رغم علمه أن الشروط لم تكتمل بعد لحدوث الثورة بمعناها الكلاسيكي. إلا أن المنطقة العربية تضافرت فيها ظروف تاريخية بعينها وتيارات سياسية إقليمية خلقت هذه الحالة الثورية التي ستستمر متي بقيت الظروف المتضافرة والمتعددة. ويدلل علي ذلك أن الجماعة عندما حكمت لم تعمل علي إحداث تحولات جذرية في البني التي تم الانتفاض ضدها. بل علي العكس فلقد أبقوا علي ما هو قائم وخاصة في مجال البنية الاقتصادية كما هو. وبات الأمر لا يعدو أن يكون استبدال نوع من رأسمالية المحاسيب برأسمالية نيوليبرالية غير مقيدة تحددها نخبة وطنية بالاتفاق مع الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية. لذا أبقت سلطة الجماعة علي قانون تحصين المستثمرين من أية مساءلة قضائية جنائية أو إدارية علي جرائم الفساد ـ في السابق ـ ما يتيح لهم التفاوض علي تسويات ودية مع لجان حكومية. وفي هذا المقام يعدد المؤلف الكثير من الأمثلة ويفندها بالتحليل العميق. لذا تمت محاولات احتواء الانتفاضة بشتي الطرق.
وحول المستقبل يخلص المؤلف إلي أن الإنجاز الرئيسي للانتفاضة العربية ـ حتي تاريخ نشر الكتاب مطلع2013 ـ يتمثل في’ أن شعوب المنطقة قد تعلمت أن تريد. وهو ليس بالأمر الهين. تعلمت الشعوب أن تعبر عن إرادتها الديمقراطية بأكثر الطرق جذرية’…ونتابع…