أمريكا اللاتينية ولاهوت التحرير فى ٥٠ سنة

كنت أنوى أن أكتب مقال اليوم عن مناسبة الاحتفال بمرور 50 عاما على صدور كتاب «لاهوت التحرير» وقيمته كنموذج لتجدد الفكر الدينى المتفاعل مع الناس والساعى لتحريرهم من الأوهام والأساطير والقيود وأبنية القهر التى سادت قارة أمريكا اللاتينية...إلا أنه تصادف أن قرأت مجموعة من الدراسات حول الأوضاع الصعبة للقارة اللاتينية تتشابه مع الماضى ونتج عنها ما يمكن أن نطلق عليه ناسوت الغضب والذى أدى بدوره إلى ميلاد حركة لاهوت التحرير...كيف؟

 

فى 1971، صدر كتاب «لاهوت التحرير»؛ للاهوتى البيروفى جوستافو جوتييريز...لم يكن الكتاب مجرد دراسة لاهوتية أو نظرية وإنما كان تعبيراً صادقاً لحقيقة ما يمكن تسميته بناسوت الغضب أو حقيقة ألم الناس... لم يكتف الكتاب بالكشف عن واقع المهمشين المؤلم فى أمريكا اللاتينية، والذين يمثلون غالبية سكان القارة اللاتينية، وإنما عمل على صياغة ما أطلقت عليه: «الجدل المُبدع» ؛بين النصوص الدينية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية لإنجاز:

أولا: فهم المسار التاريخى الذى جرت فيه عملية تهميش غالبية سكان القارة. ثانيا: فهم كيف تمت عملية الظلم والقهر والإفقار منذ الاستعمار الاستيطانى القهرى الذى جرى للقارة اللاتينية نتيجة الموجات الكشفية الأوروبية المبكرة فالأمريكية لاحقا. ثالثا: الاستفادة من جديد حقلى الاقتصاد والتنمية ــ خاصة ما عُرف بمدرسة التبعية ــ فى إدراك جوهر عملية التهميش التى تتم للغالبية من مواطنى القارة اللاتينية. رابعا: الفهم الدقيق لواقع المجتمع بأبعاده المتعددة من خلال دراسة السياق المجتمعى الذى يعيش فيه الناس. خامسا: الاجتهاد المركب فى كيفية جعل الدين طاقة دافعة للإنسان/المواطن نحو التحرر من القهر والظلم والاستبعاد والتهميش. ومن ثم لا يعود الفكر الدينى وممارساته أداة تكريس للأوضاع القائمة بقدر ما يصبح قوة داعمة للتحرر والإبداع والإنتاج...

ونتج، بالأخير، عن عملية الجدل المبدع، والمركب، نص لاهوتى رفيع المستوي. يعد نموذجا لتجديد الفكر الدينى الذي: أولا: يستجيب لحاجة الناس. وثانيا: يطلق طاقاتهم الكامنة. وثالثا: يعظم من قدراتهم.

ولم يكن لهذا النص أن يكتسب الحيوية إلا لأن جوتييريز وجيله ممن اهتموا بأحوال المهمشين كانوا يعيشون وسط الناس فيما عرف بالجماعات القاعدية أو الكنائس الشعبية. ولم يمارسوا أى نوع من أنواع السلطة ما ميزهم عن السلطة الكنسية الرسمية التى هى معنية باكتناز المال وكانت منخرطة فيما يعرف فى الأدبيات بتحالف «الكريول» (طبقة تحالف الإقطاع والسياسيين ورجال الدين).بجانب العمل الجدى المخلص مع الناس من أجل تحسين أحوالهم المعيشية فى حدود الموارد المتاحة.

وفى ضوء ما سبق، يمكن اعتبار أن نص لاهوت التحرير الذى يحل يوبيله الذهبى هذا العام هو خلاصة لخبرة ممتدة بدأت مع مطلع خمسينيات القرن الماضى مع إخفاق أنظمة ما بعد الاستقلال وما بعد الحرب العالمية الثانية فى تحقيق التنمية المرجوة. وتشير الاحصائيات إلى أنه فى سنة 1955 بات 4% من سكان أمريكا اللاتينية يستحوذون على 50% من الدخل القومي، بينما الـ 96% من باقى السكان يحصلون على الـ ٥٠% الأخري...ما دفع بعض العناصر داخل الكنيسة الكاثوليكية فى دول القارة اللاتينية لطرح سؤال مصيرى عن الرسالة المجتمعية للكنيسة ودورها حيال الفقراء والمهمشين...وهنا نود الإشارة إلى لقاء أساقفة أمريكا اللاتينية الذى عقد بريو دى جانيرو فى 1955 باعتباره نقطة انطلاق تاريخية أسست لمسار آخر منحاز للناس وهمومهم...فبدأت موجة من الممارسات والكتابات التى تُعنى بمقاربة واقع المهمشين الاقتصادى والاجتماعى والسياسى المؤلم فى أمريكا اللاتينية المحتقن لقرون...كذلك موجة من التنظيمات المدنية المعنية بواقع الطبقات الشعبية من: فلاحين وعمال، والفئات النوعية من: شباب ونساء وأطفال، وكل المهمشين فى الجسم الاجتماعي.

ويبدو لى اليوم ونحن نتذكر مرور 50عاما على صدور كتاب لاهوت التحرير الذى تضمن خلاصة لفكر دينى متجدد وممارسات من أجل حياة أفضل للناس فى القارة اللاتينية، أصبحت نموذجا جديرا بالاقتداء، أن تتم مراجعة شاملة لمواجهة ناسوت الغضب أو الغضب الجماهيرى العارم الذى تجدد فى أمريكا اللاتينية.

ففى تقرير صادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة للدكتورة صدفة محمد (بتاريخ 22 يونيو الحالي) حول الأوضاع الصحية والاقتصادية لقارة أمريكا اللاتينية نشير إلى أولا: شهدت دول القارة 30% من الوفيات بسبب الجائحة بالرغم من أنها تضم 8% من سكان العالم. ثانيا: كما تعرض اقتصادها إلى تراجع قارب الـ8% من الناتج المحلي، وهو الأكبر فى عام واحد منذ 1821، والأكثر حدة فى العالم...ما نتج عنه: ارتفاع الديون، وتدهور الأوضاع الاجتماعية والبيئية، وعدم الاستقرار السياسي،... فى هذا المقام، تدعو الدراسة إلى مجموعة من الحلول والأفكار لعل من أهمها ـ ويتعلق بموضوعنا مباشرةــ صياغة عقد اجتماعى جديد...وتتزامن مع هذه الدعوة مبادرات عديدة تؤكد أهمية السعى مجددا ــ من أجل ميلاد لاهوت تحرير جديد يواجه ما تم الكشف عنه من اختلالات دفعت 22مليون مواطن نحو دائرة الفقر فى السنتين الأخيرتين...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern