مفتتح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ذروة الحرب العالمية الثانية، وتحديدا، في سنة 1940، أصدر ه.ج.ويلز؛
كتابه المستقبلي:"نظام العالم الجديد"؛
مبشرا بأن نظام العالم الجديد سيكون، علم، منتج اجتماعي، سيشارك في انتاجه وإطلاقه عدد لا حصر له من الأفراد والشخصيات. فالاستئثار بصنع العالم لن يكون مقصورا على فرد. أو نخبة مغلقة، أو قلة مهيمنة، وطبقة مستغلة،...،إلخ. وإنما ستتسع دائرة الشراكة في صنعه. كما أنه سيكون عملية مستمرة لا سقف لها تقودها قاطرة العلم والتكنولوجيا.
وفي ضوء ما قاله ويلز؛ فإن مسيرة التقدم وفق التطور الخطي الذي عرفه العالم القديم سوف تنتهي. ليحل محلها عالم جديد يقوم على التطور المركب. ولن يكون الصراع الطبقي، أو الحروب، هما مصدر التقدم فقط، وإنما سيضاف إليها أنواع أخرى من الديناميكيات التي تتداخل معا في جدلية مركبة لتؤسس العالم الجديد أو النموذج الحضاري المتجدد. والذي ستكون أحد سماته الرئيسية ـــ بفضل التطور التكنولوجي ـــ ديمومة التغير؛ والانتقال بالبشرية من زمن إلى زمن أو ما وصفته الأدبيات "بتغير العصر/الزمن “Change of Age”، متجاوزة مفهوم زمن التغير “Age of Change”، بمراحل...
وعليه لن يكون النموذج الحضاري الغربي الراهن هو النموذج الذي عرفناه واختبرناه تاريخيا كليا...ومن ثم لن يستقيم طرحنا لسؤال أزمة النموذج الحضاري الغربي. فأي نموذج حضاري غربي نقصد في ضوء التغير الدائم...وإذا كان هناك من أزمة فأنها ستكون أزمة التقدم المركب والتجدد...وحولها نطرح الأفكار التالية...
تمهيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) أظن أنه قد آن الأوان أن نعيد النظر في فهمنا للغرب ومن ثم علاقتنا به. إعادة نظر قادرة على أن تكون متحررة من صيغة "الثنائيات الحدية"، التي عشنا أسرى لها على مدى عقود، من عينة: "الغرب والشرق" وتنويعاتها( الغرب العلماني والشرق المؤمن، والغرب المفكر والشرق الفنان، الغرب المادي والشرق الروحي،....،إلخ). كما لابد من التأكيد على أن النموذج الحضاري ليس حالة ساكنة تحمل نفس السمات عبر الزمن تكون غير قابلة للتغيير. وإنما النموذج الحضاري يتجدد ويحتضر، ويقوم ويسقط، وينطلق ويتعثر،...،إلخ، وفق السياق التاريخي المواكب وقدرة الجماعة الانسانية، المكونة لهذا النموذج، أو ذاك، على الدفع به نحو التقدم.
وعليه، لابد أن ننتبه إلى أن النموذج الغربي الحضاري القائم يختلف جذريا عن ما هو متواتر لدينا منذ القدم. فلم نزل ننظر إلى الغرب باعتباره "الغرب الصناعي". ولم تزل دراساتنا الاجتماعية والسياسية تتعاطى مع الغرب وكأنه لم يزل في الحقبة الصناعية بمقوماتها وقيمها، إلا فيما ندر. بينما الغرب قد غادر المحطة الصناعية عابرا المحطتين الكهربية والالكترونية إلى محطة ثورة التقنيات الدقيقة الحديثة التي تشمل: التكنولوجيا الحيوية، والهندسة الوراثية، والأتمتةAutomation . و بفعل مرور النموذج الحضاري الغربي في الدورات الحضارية الثورية ــ سابقة الذكر ـــ اتسعت الفجوة بيننا وبينهم. ولم يعد صالحا ـــ أو لائقا ـــ الاستمرار في طرح السؤال النمطي البسيط عن "أزمة النموذج الحضاري الغربي"...لماذا؟
2) بداية، لأن مجرد طرح السؤال بهذه البساطة. إنما يعني بقاء تصورنا عن النموذج الحضاري الغربي "جامد" لا يتغير. وكأن الحالة الحضارية تكون ساكنة لا يطلها أي تحول. وأظن أن لفظة "نموذج" لدينا تكون أقرب إلى المنتج المادي ذات المعايير القياسية كنتاج لخط انتاج موحد ووحيد. فلم يزل الغرب عند البعض هو "الغرب الاستعماري"، أو "الصليبي"، أو "المادي"، أو "العلماني"، أو "الماجن"،...،إلخ. وهي كلها تصورات باتت "متُخيلة" عن النموذج الحضاري الغربي. أو من حفريات الذاكرة الماضوية للعقل العربي. وللتدليل على ذلك عمليا نشير إلى أن مناهج علم الاجتماع والسياسة والفلسفة والتاريخ والاقتصاد التي نقوم بتدريسها في معاهدنا العلمية لم تزل واقفة عند ابداعات منتصف القرن العشرين. ما يعني أننا نتخلف عن الغرب بأربع موجات معرفية على الأقل. وبفضل هذه الدورات الحضارية الثورية تعقد النموذج الحضاري الغربي إلى الحد الذي لا يمكن اختزاله في الديني فقط. أو التسليم المطلق بهيمنة لون واحد أو مصلحة بعينها أو نخبة ما على هذا النموذج. حيث أصبح التنوع والحيوية والابداع والنقد الذاتي من ملامح النموذج الحضاري الغربي. وبالأخير لا يستقيم أن نطرح السؤال القديم/الجديد ، الاجتراري/التكراري حول أزمة النموذج الحضاري الغربي.
3) ويبدو لي أننا نستعيد ونستدعي إشكالية النموذج الغربي منذ مطلع القرن التاسع عشر وكأننا في حالة سكونية بقيت فيها الأحوال على ما هي عليه. فلا الغرب الراهن والآخذ في التقدم هو غرب "نابليون". ولا الشرق هو الشرق. ولا المقولة الاستعمارية التي أطلقها الشاعر "كبلنج" التي تقول بأن: "الشرق شرق والغرب غرب"، مازالت صالحة ومن ثم سيادة المركزية الغربية إلى ما لا نهاية. نعم لم تزل القوى: القومية، والعنصرية/والإثنية، واليمينية، والمحافظة سياسيا ودينيا، تدعمها. بيد أن هناك قوى أخرى خرجت من نتاج التفاعلات المجتمعية مضادة لموقف القوى الأولى وإلى سيادة المركزية الغربية بالمعنى الاستعماري. كما أن تقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة قد فتحت أفقا للتضامنات العابرة للقارات في الكثير من القضايا. خاصة على مستوى القوى المدنية القاعدية متحررة من: أولا أية رؤى مطلقة تحكم العلاقة بين النماذج الحضارية. وثانيا عن درجة تطورها.
4) إن منطقي كل من: أولا الاستقطاب الحاد الذي ساد العالم وقت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وثانيا السجال/الصدام الذي ساد العالم عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. قد تم تجاوزهما. بفعل الحراك القاعدي الذي ساد العالم عقب الأزمات الاقتصادية والسياسية العابرة للقارات مؤسسا أو محاولا لتأسيس ’’براديجم‘‘ “Paradigm” جديد. إنها نفس الحالة التي لحقت بالعالم في 1968 في محاولة لتجاوز "زمن" ما قبل الحرب العالمية الثانية الذي استمر يحكم العالم حتى نهاية الستينيات. لكن يبدو لي أن الاستمرار في استدعاء تعبير الأزمة والاكثار منها وربما الاصرار عليها يعني أننا لا ولم ندرك بعد طبيعة اللحظة التاريخية التي بلغتها الحضارة الانسانية بتجلياتها المتفاوتة والمختلفة سواء في الدول التي انطلقت تتقدم بلا حدود، أو الدول المتعثرة في بلوغ التقدم.
5) هذا لا يعني ألا نقارب النموذج الغربي. وإنما يجب أن تكون مقاربتنا وفق إدراك أن النموذج الغربي" قد امتلك ما يمكن أن نطلق عليه ’’ديمومة التحول‘‘؛ أو القدرة الحيوية المتجددة على التقدم. وفي المقابل استسلمنا نحن لحالة مستمرة وممتدة لما يمكن أن نسميه ’’ديمومة العجز‘‘؛ والتي قد يبدو منها أننا عدنا إلى الثنائية الحدية القديمة. إلا أن الأمر أعقد من هذا الاستنتاج الذي أتصوره غير دقيق...لماذا وكيف؟...نفصل أكثر...
ديمومة التحول مقابل ديمومة العجز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6) يقول عالم الاجتماع الفرنسي ادجار موران (1921 ـــ )، أنه بات علينا "الاقتصاد في استخدام مفردة "الأزمة". معتبرا أنها تستعمل بإفراط منذ عقود بسبب الخلط بين ظاهرتين مختلفتين: الأولى ترتبط بالتحولات العميقة التي تحصل في ميادين شتى، وقد لا تكون بارزة ولا قابلة للتوقع منذ البداية، لكنها ظاهرة طبيعية تجسد قانون التغير الذي يحكم التاريخ والمجتمع، بل الكائنات الحية عامة. والثانية ترتبط بخلل مؤقت يطرأ على منظومة معينة ويتوقع إصلاحه بعد فترة، وهي الجديرة وحدها بأن تدعى أزمة، لأنها تحمل ــ في هذه الحالة ــ معنى الطارئ والقابل للتجاوز". بلغة أخرى، أصبح علينا أن ندقق في مقولة أزمة النموذج الحضاري الغربي. خاصة وأن نموذجنا الحضاري يعاني التعثر. ذلك لأنه ’’تجاوز حد الاختلالات المؤقتة إلى المزمنة‘‘.
7) وأظن انني لست متجنيا إذا ما حاولت أن أوجز اللحظة الراهنة بين وضعينا الغربي والعربي في المقابلة الآتية: ’’ديمومة العجز مقابل ديمومة التحول‘‘؛ ومن ثم محاولة تصويب السؤال المطروح على الأخر الحضاري حول سؤال الأزمة ـــ الذي أتصوره فاقد الأهلية ـــ ، إلى أسئلة متعددة/مركبة حول فهم أسباب العجز والوضع الراكد(نسبيا) لدينا، وعوامل "التحولات" المتعاقبة لديهم.
) فبحسب المفكر التونسي محمد الحداد حول "ديمومة العجز" يقول:" ما معنى الحديث عن أزمة الحكم إذا كان مفهوم الدولة الوطنية محل جدل وممانعة من قوى أساسية في المجتمع؟. وما معنى الحديث عن أزمة اقتصادية إذا ظل الاقتصاد ريعيا يعمل على شاكلة اقتصادات الحروب والغلبة في عصور ما قبل الحداثة؟. وما معنى الحديث عن أزمة الثقافة إذا ظل المثقف كائنا ملعونا بأدواره المفترضة في تطوير المجتمع وتوجيهه؟". وماذا يعني الحديث عن أزمة الآخرين ونحن غارقين في العجز نجتر الأسئلة ولا نطرح إجابات على الأسئلة الجديدة التي تطرح يوميا على أرض الواقع. مما سبق، أصبح لزاما علينا أن نعيد صياغة طرحنا حول النموذج الحضاري الغربي. وان نصوب من الكيفية المتعالية التي تعطينا الحق في الحكم على النموذج الغربي بالصورة النمطية التي دأبنا عليها.
9) وعليه فإن المهمة الجديرة بالاهتمام. وهي في حقيقة الأمر ــــ مهمة مزدوجة ــــ لأنها تتطلب منا أن نقوم بأمرين متشابكين في آن واحد هما: أولا أن نفهم سر ديمومة الاختلالات في واقعنا الحضاري. وديمومة العجز في فك شفرة هذه الاختلالات على مدى عقود تغيرت فيها أنظمة الحكم وتبدلت التوجهات والسياسات. وتكلست فيها مؤسساتنا وأبنيتنا السياسية والاجتماعية والثقافية،...،إلخ. وثانيا إدراك التحولات العميقة التي تتفاعل في سياق الحضارة الغربية وقدرة مكوناتها على التكيف مع هذه التحولات. وتحرر النموذج الغربي ــ أو محاولته ـــ من الصورة/الصور النمطية التي دأبنا على وصفه بها.
10) إن القدرة على التمييز بين "ديمومة التحول"؛ والتي تعني القدرة على التعاطي مع الأزمات والقدرة على التجدد الحضاري وتنوعه؛ وبين "ديمومة العجز"؛ التي تعكس حالة مستمرة وممتدة من الأزمات المزمنة. ما يجعل الحال على ما هو عليه؛ إنما يحتاج إلى دراسة شاملة متعددة المقاربات تأخذ في الاعتبار السياقات المجتمعية وتفاعلات عناصرها خاصة في الحقبتين الأخيرتين. هذا هو السبيل لإدراك جوهر النموذجين: "العاجز" و"المتحول"؛ من حيث الأسباب البنيوية للعجز والظروف الموضوعية الدافعة لرفع القدرة على التكيف مع التحولات...ولأن المساحة لن تسمح بمقاربة النموذجين سنكتفي بإلقاء الضوء على لماذا يتجدد النموذج الغربي، وطبيعته...
النموذج الغربي: فضيلة المراجعة الدائمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
11) المتابع للمسار الفكري للنموذج الحضاري الغربي ــ على عكس الشائع ـــ سوف يجده دائم النقد الذاتي والمراجعة ومن ثم الابداع. فالنموذج الحضاري الغربي تبنى فكرة مفادها: "كيفية تصور ولادة جديدة دائمة". واختبر أن المراجعة الدائمة هي الآلية التي تضمن له ديمومة تحول(ولادة) "آمنة" نحو التقدم. صحيح كان هناك ـــ دوما ـــ من يقاوم هذا التوجه إلا أن الحاح تجاوز القديم، من جهة، وتجديد النموذج الحضاري، من جهة أخرى، قد انتصر "للتحول". وهكذا ولدت العلاقة الشرطية والطردية بين فضيلة المراجعة الدائمة وديمومة التحول.
) وتتجسد "المراجعة الدائمة" في الموجات الأربع المتعاقبة للدراسات الحضارية/التحديثية ذات الطابع النقدي والتي انطلقت منذ خمسينيات القرن الماضي: طبيعة، وحجم، ونوعية، ومساحات، وأثر التحولات/التغيرات التي لحقت بالنموذج الحضاري الغربي التي جعلته في حالة مستمرة من التحول. والتي يمكن أن نوجزها في الجدول التالي كما يلي:
موجات الدراسات الحضارية/التحديثية |
الفترة الزمنية |
النظريات |
الأولى: الدراسات الكلاسيكية الحضارية التحديثية |
1950 إلى 1970 |
1) نظرية التحديث. 2) نظرية التبعية. 3) نظرية نظام العالم. |
الثانية: دراسات ما بعد الحداثة. |
1970 إلى 1980 |
1) نظرية ما بعد المجتمع الصناعي. 2) نظرية ما بعد الحداثة. 3) نظرية ما بعد التحديث. |
الثالثة: الدراسات التحديثية الجديدة |
1980 إلى 2000 |
1) نظرية التحديث البيئي، 2) نظرية الانعكاس التحديثي، 3) نظرية تحديث المجتمع الحديث. 4) نظرية التحديث المتضاعف. 5) نظرية التحديث الثانية. |
الرابعة: الدراسات الحضارية الرقمية والتحديثية الشبكية |
2000 ـــ 2100 |
1) نظرية المالتي ميديا وأثرها الحضاري 2) النظرية الشبكية الاتصالية 3) نظرية التقنيات الحديثة الدقيقة |
13) وتقوم منهجية المراجعة الدائمة على ممارسة "إعادة النظر" “Reconsideration”؛ في المفاهيم والأفكار والتوجهات والممارسات. حيث تخضع كلها للتفكير، والبحث، والفهم، والتنظير، مرة تلو المرة. ولم يعد غريبا أن يصدر كتاب عن مؤلف معين حول موضوع ما ونجده بعد وقت قليل يعيد النظر فيه ويطبع مجددا بأفكار محدثة. وهكذا يحدث التقدم بفضل منهج "إعادة النظر" الرباعية العناصر التي نرصدها في الآتي:
- إعادة التفكير Re-Thinking
- الدراسة والبحث المتجددة Re-Studying
- إعادة الفهم Re-Understanding
- التنظير المتجدد: إعادة التنظير Re-Theorizing
14) كما أتاحت منهجية إعادة النظر لانجاز الكثير من المشروعات الفكرية من قبل باحثين كبار مثل: أنتوني جيدنز، وبرايان تيرنر، ووالرشتاين، وهوبسباوم، وبيري أندرسون، وكوينتن سكنر، وبادينجتون مور، وتيري إيجلتون، وكاستلز، وبرتران بادي، ودافيد هارفي، وتوماس بيكيتي،...،إلخ. وهو الأمر الذي مكن من تكريس معرفة موازية للمعرفة الكونيولونية التاريخية، والاستشراقية، والنيوليبرالية الجديدة. لذا انطلقت الحركات القاعدية التقدمية ذات الطابع الإنساني العابر للقارات. فمن قلب النموذج الغربي خرجت دعوات: "مناهضة العولمة"، ومناهضة النيوليبرالية الشرسة"، و"مناهضة اللامساواة والتفاوتات المجتمعية"،...،إلخ. كذلك الأجيال الحقوقية المتعاقبة على المستويين الفكري والعملي.
15) الخلاصة، لقد استطاع النموذج الغربي أن يحقق ما يمكن تسميته الديمقراطية الحضارية. حيث تجد كل ألوان الطيف حاضرة وقادرة على التعبير والتأثير والابداع في الداخل والخارج. ولا يعني ما سبق أن هذا يتم بنعومة. وغنما يتم من خلال آليات تم التوافق عليها تمكن الأفكار المتناقضة من "الجدل" والتعايش بدرجة أو أخرى. فقتل الملونين في أمريكا بالرغم من أنه يعكس استمرار الموقف العنصري التاريخي لدى البعض إلا أن هناك ضمانات تتيح عدم ضياع الحقوق من جانب، كما تلزم بتغيير السياسات الثقافية والسياسية المانعة من الدمج.
16) لا يعني ما سبق، الغياب التام للأزمات. إلا أن الحيوية الفكرية من خلال ممارسة "فضيلة المراجعة الدائمة"، كما شرحنا، تعين في استباق الأزمات، ومواجهة تداعياتها بسرعة وكفاءة متى وقعت. ويكفي مراجعة دوريات من عينة: “Reason”، أو “Futurist”،...،إلخ. لإدراك المنهجية التي تناقش بها القضايا الكبرى مثل: "الأزمات الثقافية والاجتماعية ـــ المتوقعة ـــ بعد 20 سنة(ملف منشور في 2012). أو ما طرحته مجلة “n+1”، حول مستقبل الرأسمالية،...،إلخ. يضاف إلى ما سبق هو أن هناك طريقا مفتوحا وممهدا بين الأفكار والسياسات، أو التواصل مع الواقع. إنها "ثقافة التساؤل" الدائم. وهو أهم تحول حدث في الغرب. وإذا كانت هناك أزمة يعاني منها النموذج الغربي فأظنها "أزمة التقدم المطرد والمركب"...كيف؟
النموذج الغربي الراهن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
17) يتسم النموذج الغربي الراهن بأنه تجاوز المسار الخطي الميكانيكي النيوتوني(نسبة لإسحق نيوتن). فلم يعد هناك عامل وحيد يهيمن باستمرار على عملية التطور. فلقد أصبح الواقع الاجتماعي متعدد الأبعاد. وبإمكان أحدها أو بعضها ـــ بحسب موران ـــ أن "يهيمن في لحظة، لكن هناك تدوير للهيمنة. والديالكتيك(الجدل) لا يمشي على قدمين ولا على الرأس، إنه يدور، لأنه قبل كل شيء في حالة حركية دءوب". وساهم "تضاعف المعرفة" الغير طبيعي، ومن ثم "تجدد التكنولوجيا" المتسارع في تعميق هذه الحالة الحركية.
18) والمحصلة أن النموذج (البراديجم) القديم لم يعد موجودا تقربا أو ــ للدقة ـــ يتراوح وجوده بحسب كل سياق ودرجة تطوره. وفي الغرب تحديدا هناك على نموذج جديد آخذ في التبلور. فلم يعد الصراع الطبقي وحده العامل الحاسم في التطور. فهناك جدل الشبكات القاعدية التواصلية الالكترونية مقابل الشبكة السلطوية المركزية. و الحركات القاعدية الرافضة لأي مؤسسية عتيقة. والأطروحات الخاصة الباحثة عن دولة رفاهة عادلة لمقاومة الليبرالية الجديدة المنتجة للتفاوتات بأنواعها،...،إلخ.
19) هذا هو حال النموذج الغربي الراهن. وأظن أن الأسئلة التقليدية والتصورات النمطية لم تعد تتوافق مع طبيعة تقدم الغرب ونوعية الحركة المركبة التي يمارسها. وحتى يمكن أن ندير نقاش حقيقي حول النماذج الحضارية أظن أنه علينا القبول أولا بأن "زمن جديد"، قيد التشكل، وما أن يتشكل سوف يدخل فورا في دورة تحول جديدة. ومن ثم لا يمكن التعاطي مع الزمن الجديد المتجدد والمتحول: بإطراد وتركيب، برؤى ومناهج وأفكار ومقاربات قديمة لم تنتج إلا العجز...