عرفت "مصر المحروسة" العنف ببعديه المادي والمعنوي الموجه للآخر: الدولة والمجتمع. الدولة الحديثة بقيمها وفي القلب منها قيمة المواطنة. والمجتمع بما يتضمن من تنوع وتعددية سياسية وثقافية. انطلق العنف كسلوك إيذائي تجاه الدولة والمجتمع. ومر العنف في دورات متعاقبة عدة وتحولات نوعية في طبيعته على مدى العقود الخمسة الأخيرة...والسؤال الأساس هنا هو لماذا امتد عمر العنف؟ ووصل إلى الكيفية التي نشهدها؟ وما هي خطورة التحول النوعي للعنف وتداعياته؟
- في أيديولوجيا العنف: تطورها وعناصرها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نهاية الثمانينيات، توصل أستاذنا الفقيه القانوني والمؤرخ الكبير وليم سليمان قلادة(1924 ــ 1999) إلى مقولة ـــ كررها كثيرون بعده ـــ مفادها أن: " العنف يبدأ فكرا". وقصد بها، أن ممارسي العنف لا يمكن أن يصلوا إلى الحالة "العُنفية" ما لم تكن هناك منظومة فكرية كاملة تحكم هذا السلوك وتدفع إلى ممارسته. وأظنها مقولة صحيحة. فلو لم اتكن هناك منظومة فكرية تبرر العنف لدى "العُنفيون"، ما استمر العنف. الأهم هو أن "الاستمرارية العُنفية" قد أوجبت تطوير المنظومة الفكرية والتي بدورها دفعت بتطوير الطبيعة العنفية. أي أنه بات هناك علاقة جدلية قد نشأت بين المنظومة الفكرية والتحول النوعي في طبيعة العنف. الأيديولوجيا تولد العنف والعنف يتحول ويتحور وفقا للأيديولوجيا، وهكذا. ساهم في ذلك قصور المواجهة واقتصارها على الجانب الأمني فقط.
فلقد بدأ العنف انطلاقا من أن أحوال "البلاد والعباد" لا تعُمل شرع الله. ومن ثم وجب الدفاع عن هذا التقصير من خلال أعمال عنف ضاغطة. ووصلنا إلى أن الدولة بكل فيها قد صارت مُشركة، ما يستدعي تدميرها بالكامل. نفس النهج تم اتباعه في النظر إلى غير المسلمين فلقد بدا أنصار العنف عملياتهم وهم يرون غير المسلمين "أهل ذمة" ومن ثم لابد من عقد "عقد ذمة" معهم وإعمال شروطه بالتالي ما يستدعي بعض الضغط في اتجاه ذلك. وتطورت عمليات العنف وتضاعفت وتنوعت وتكثفت ذلك لأن النظر إلى غير المسلمين بات يأخذ منحى مغاير. فلقد صاروا "جموع صليبية"، يلزم محاربتها(بحسب أدبيات داعش). أخذا في الاعتبار ما لدلالة "صليبية" من دلالات عسكرية وتاريخية. وفي المجمل تطور العنف ممارسة. وتطورت المنظومة الفكرية التي تبرره.
- أيديولوجيا العنف: خمسة عناصر حاكمة...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من خلال مراجعة تطور أدبيات جماعات العنف الديني تاريخيا يمكن أن نشير إلى خمسة عناصر حاكمة لأيديولوجيا العنف وذلك كما يلي: أولا: الانقطاع عن غير المتماثلين ومع المجتمع وقيمه والسياق الدولتي(نسبة إلى دولة). ثانيا: احتكار الحقيقة؛ بديلا عن الحوار، والشراكة، والتواصل المجتمعي مع الآخرين، ودعم الممارسة الديمقراطية والمدنية وقواعدها السلمية. ثالثا: ممارسة الإكراه على دوائر الحركة المجتمعية المختلفة، التي يتحركون فيها وبخاصة على من ينتمي إلى أسفل الجسم الاجتماعي. رابعا: الاستئثار ـ بالمطلق ــ بحق العقاب لكل من تسول له نفسه أن يخالف منظومة العنف الفكرية أو يفكر في الخروج أو الاعتراض عليها أو مقاومتها بالقول أو بالفعل. ومن ثم خامسا: إقامة سلطة الغلبة قسرا وبديلا عن كل ما هو قائم من سلطات ومؤسسات..
وعليه تعد خماسية: الانقطاع، الاحتكار، الإكراه، الاستئثار، الغلبة؛ هي المرجعية الفكرية للعنف الراهن. ويمكن أن نطلق عليها: ’’خماسية شرعية العنف‘‘...إنه العنف المتوحد بالمطلق الديني... والذي أوصلنا إلى ما يمكن تسميته "الإرهاب الحربي الشامل"؛
- خماسية شرعية العنف وتداعياتها على الدولة الحديثة ومجتمعها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دأب "العُنفيون" على نشر هذه العناصر الخمسة كقيم حاكمة للمجتمع والدولة التي يبغون اقامتها، وذلك من خلال الخطوات التالية: أولا: الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة في نشر خماسية شرعية العنف. ثانيا: اختيار القاعدة الاجتماعية المناسبة لتبني هذه القيم. وذلك لأنه بدون تأمين حلفاء سواء بالاقتناع أو بالإجبار فإن العنف لن يؤتي ثماره. ثالثا: تصنيف القاعدة الاجتماعية إلى نوعين. الأولى، ويتم اختيارها بعناية بحيث تكون قادرة على أن تكون من "حراس" منظومة الفكر العُنفية. كذلك على تنفيذ ما تؤتمر به وفق هذه المنظومة دون نقاش. بلغة أخرى تكون هذه الفئة عناصر يتم تجنيدها لممارسة العنف. أما النوع الثاني للقاعدة الاجتماعية فهو ما يمكن أن نطلق عليه "الظهير الشعبي" لجماعات العنف. الذين يصمتون على العنف بالصمت أو بالتواطؤ أو بالخوف لأسباب عدة. وربما يظنون أنه يعينهم على مقاومة الواقع المجتمعي المؤلم.
وليس من الصعب اكتشاف أن نوعي هذه القاعدة الاجتماعية ينتميا ــ في الأغلب ــ إلى الطبقة الوسطى الدنيا فما دون. وهي الطبقة التي تعاني بالأساس من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. ومن الحرمان وانعدام الفرص. والقدرة على التعبير والتنظيم.
والدرس المستفاد من التجربة التاريخية لحركة الشعوب، هو أن العنف يولد من غياب العدالة أو تغييبها قسرا. فالتفاوتات المتنوعة بين البشر تنشأ لاختلالات في المنظومة المجتمعية بمستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية. ما يؤكد أن الظلم الاجتماعي وتنامي التفاوتات المتنوعة هما وقود العنف وتبني ايديولوجيته.
وبالأخير، يقع المجتمع ودولته، في أسر حالة عُنفية تسعى ــ بحسب أحد الباحثين ــ إلى: "القولبة الجبرية، والتطابق المتعسف، والانسجام القسري". والأهم خلق قواعد جديدة للتعايش الجبري بحسب إن أمكن، استحداث قوانين، مغايرة لما هو مستقر، تعبر عن شرعية العنف أوــ أضعف الإيمان ــ ببلورة ثقافة مجتمعية مضادة مانعة لتطبيق القوانين السائدة والتي تتوافق عليها الأغلبية.
وإتاحة الفرصة لتطبيق قيم شرعية العنف جبرا وتعسفا وقسرا...
- الثقافة المجتمعية المضادة المانعة: نزعة تدميرية...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دأبت جماعات العنف، لحين النجاح في تأسيس البديل لما هو قائم بقوانينه ومؤسساته على تجنيد ما يصلح لدعم أهدافها. سواء على مستوى الانخراط في عضويتها. أو تأمين الظهير الجماهيري المساند لها كما أوضحنا. والأهم نسج ثقافة تحول دون تطبيق القانون الشرعي والساري الذي أجمعت عليه الأغلبية. وذلك تحت مظلة العنف بتجلييه: المادي والمعنوي. ما نتج عنه عمليا تعطيل إعمال القانون في الواقع. والحيلولة دون تنفيذ قرارات إدارية واجبة النفاذ. والتحريض ضد التشريعات القائمة. وإعاقة حضور الدولة ومؤسساتها في بعض المواقف.
وهو أمر لم ننتبه لخطورته وأثره الضار على شرعية القائم...كيف؟
وللتدليل على ما سبق يمكن الإشارة السريعة إلى "فخ الامتثال للقانون العرفي" لحل إشكاليات التوتر الديني. حيث لم يكن العرفي إلا تغطية لتمرير "سلطة الغلبة"، إما خوفا، أو نفاقا،...،إلخ.
وقد كان البعض يبررون تطبيق العرفي من منطلق أنه لا ضرر من القبول بالاحتكام بالأعراف. اعترافا بالخصوصية الثقافية للبيئة التي تحتكم إليه في ظروف معينة وفي وقائع بعينها. إلا أن ما يمكن أن يقبل في حالات محددة لها ظروفها وسياقها أصبح هو الشائع والسائد. ورويدا رويدا حل العرفي (الذي هو في الحقيقة سلطة الغلبة لشرعية العنف)محل الدولة بقانونها ومؤسساتها ومجتمعها. ولم ننتبه أن القبول بذلك إنما يعني: "التنازل الطوعي" عن شرعية الدولة ومرجعية القانون الذي تم التوافق عليه من قبل المواطنين لصالح ’’شرعية جماعة العنف‘‘...
والنتيجة، بات ما هو محللا بالدستور والقانون وتوافق غالبية المجتمع اللاعنفي، محرما وفق العرف، أو بالأحرى ’’سلطة الغلبة لجماعة العنف‘‘... كما أصبح المجتمع(بمواطنيه على اختلافهم) ـــ بدرجة أو أخرى ـــ أسرى اللحظة التاريخية: قلقا، ورفضا، وارتباكا،...،إلخ. خاصة مع التحول النوعي للعنف: أولا: جغرافيا: حيث انتقل من الأطراف الحدودية والفقيرة إلى المراكز والحواضر. وثانيا: أيديولوجيا: حيث بالمطلق: الدولة كافرة. وغير المسلمين مرتدين وصليبيين(ليسوا اهل ذمة أو نصارى). والمجتمع مشكوك في إيمانهم. لأنه كيان "مُشرك" إجمالا. وثالثا: الانتقال من مرحلة العمليات الجزئية البسيطة الأولية التسليح إلى المركبة والشاملة...
إن ’’الثقافة المجتمعية المضادة المانعة‘‘؛ أخطر ما نجحت في نسجه جماعات العنف. حيث تغذي هذه الثقافة استمرار العنف المادي. كما يدفع العنف المادي بامتداد هذه الثقافة المضادة المانعة لقيم الدولة الحديثة وبخاصة في المواضع الأكثر تخلفا والأقل تنمية. ما يؤدي في المحصلة إلى: أولا: نفي الآخر(أي آخر لأنه لا يتبع الأيديولوجية العنفية) على حساب الحياة المشتركة والشراكة الوطنية. ثانيا: قطع الجسور بين المواطنين ورفض فكرة الاختلاف لأن التماثل هو الأساس في الفكر العُنفي. ثالثا: هدم كل ما هو قائم تعددي لحساب الأحادية.
- في مواجهة تدمير الدولة الحديثة...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنها ذروة دورات العنف التي شهدتها مصر على مدى خمسين سنة. لأنها باتت تسلك سلوكا "عدوانيا تدميريا" بلغة عالم النفس والمفكر الإنساني الكبير ــ الألماني الأمريكي ــ إريك فروم(1900 ـ 1980). والتي مع مرور الوقت تتحول إلى عبادة في ذاتها. وتكون هدفا للانتشاء والسعادة. ومن ثم فمن لا يذعن لما يعتقده ممارسو العنف فإنه يستحق التدمير التام والسحق الكامل. إنها عقدة "بروكست" (الحداد اليوناني الأسطوري الذي كان يخطف العابرون من قارعة الطريق وضعهم على أسرة ذات طول ثابت. فإذا كان المخطوف أطول من السرير يقوم بضغطه، أما إذا كان أقصر منه قام بمطه. وفي الحالين يكون المختطف ضحية رؤية محدودة تتمثل في الطول الثابت للسرير. فإذا فلت من الموت نتيجة المط أو الضغط فإنه يعيش مشوها ومنفذا لرؤية أو لإيمان لا يدركه ولا يؤمن به)...
إن النزعة العنفية التدميرية لا تأبه بتشويه التاريخ وتدمير مجسماته المادية، أو قراءته قراءة مبتسرة أحادية الرؤية. ولا تخجل من إنكار التنوع المجتمعي، والاختلاف الطبيعي. ويقينا لا تعترف بالشراكة الوطنية النضالية المشتركة لعناصر المجتمع على اختلافها في مواجهة الاستبداد والاستغلال والاستعمار. كما لا تعترف بفكرة المركب الحضاري متعدد العناصر كإطار مرجعي لمكونات الوطن الواحد،...كما لا تأبه الثقافة المجتمعية المضادة المانعة التي تحتمي بالعنف المادي بإعلان الحرب على قيم الدولة الحديثة من: مرجعية دستورية، وإعمال للقانون، وعدم شخصنة السلطة، والتأكيد على السيادة والحدود الثابتة المستقرة، والمواطنة، والمؤسسية، والضبط المجتمعي، والحداثة والعصرنة، والتوزيع العادل للثروة، والديمقراطية، والتنوير، والتحضر، والتفكير العلمي، وإعمال العقل، والإبداع،...
وبعد، أظن، أنه لابد من أن نحشد كل الجهود في تفكيك منظومة الثقافة المجتمعية المضادة المانعة. فمواجهة العنف المادي مطلوبة وضرورية. ولكن لابد من استكمالها بمواجهة شاملة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية تقدمية تنتصر لقيم الدولة الحديثة وفي القلب منها قيم المواطنة...وهو أمر يستدعي تغييرات في مناهج التعليم، وعملية التكوين الثقافي، ومضامين الرسائل الإعلامية. وفق مشروع تنموي شامل يحقق المواطنة والعدالة والكرامة الإنسانية للجميع دون تمييز...