"مئويات مصر الحديثة: القيمة التاريخية والتأسيسية ’’ثورة 1919 والمجال العام

73

’’ما المئويات إلا تجليات للحداثة والأزمنة الجديدة"...

بدأت مئويات التحديث المصري تتوالى علينا في الربع الأخير من القرن الفائت. وأقصد "بالمئويات"، الذكرى المئوية لانطلاق ما يمكن أن نطلق عليه: "أفعال، وأفكار، ومؤسسات الحداثة". وهي الأفعال والأفكار والمؤسسات التي من شأنها نقل المجتمعات إلى زمن جديد أكثر تقدما مضمونا وشكلا.

     وتعد عملية "الانتقال" المشار إليها، العملية التاريخية الأرقى في تاريخ البشرية. لأنها عملية ذات طبيعة ’’مركبة‘‘ تتسم بما يلي: أولا: بأنها عملية ’’خلاقة‘‘؛ لأنها تشتغل على انتاج حالة تاريخية جديدة: مادية وواقعية، بحسب ماركس، تتجاوز ما هو قائم الذي يكون قد بدأ يفقد صلاحيته أو يفقد قدرته على الاستجابة الحضارية لتحديات التحولات المستجدة من جانب، ولتطلعات عموم المواطنين من جانب آخر. وثانيا: تحكمها ’’عقلية‘‘؛ منظمة ــ نسبيا ــ بحسب هيجل، تنشغل بوضع منظومة القيم والأفكار للحالة التاريخية الجديدة الجديرة بتوجيه المستقبل. وثالثا: يحرك هذه العملية ويديرها فعل ’’مواطني‘‘؛ حر، أو جهود البشر بحسب كولينجوود، على مستوى الاختيارات المصيرية والقرارات الجذرية يجعل من العملية التاريخية في مستوييها المادي والقيمي حقيقة قدر الإمكان، كي تحل محل كل ما بات باليا وجامدا وكاذبا وزائفا ومن ثم وجب استبداله. خاصة وأنه ليس قدرا ومصيرا محتوما. أو ما يمكن وصفه في المجمل بجهود البشر(المواطنين) في صناعة التاريخ"...

في هذا الإطار، يكتسب "الزمن الجديد" قيمته التاريخية والتأسيسية...لماذا؟

تاريخيا؛ لأن أي زمن جديد بما يحمل من قيم وأفكار ومؤسسات، مغايرة ــ يقينا ــ لما قبله، لم يكن لينتج إلا بعد “صراع الإرادات المتعددة". وهو صراع يدور بين قوى تتقاطع لا تعد ولا تحصى. بعضها يقاوم التغيير كليا، وبعضها يدفع به لإحداث تغيير جذري. وبينهما من يميل إلى إحداث التغيير المتدرج  في البنى القائمة. ولكن ما أن يتبلور "الزمن الجديد" ، بعناصره القيمية والفكرية والمؤسسية، ما يعني حسم صراع الإرادات لصالح الجديد. فإن الزمن الجديد يكتسب الشرعية ومن ثم القيمة التاريخية.

وتأسيسيا؛  لأن القيمة التاريخية تمنح الزمن الجديد مساحة في كتاب التاريخ تستحق تذكرها، والتعلم منها، وإخضاعها للتقييم الموضوعي المتجدد لما "تأسس" في هذا الزمن الجديد.  

في منهج

’’التاريخ كعملية ابداعية وتأسيسية‘‘...

     في هذا الإطار، عمل الكثير من الباحثين المحدثين على وضع الضوابط والمعايير اللازمة لتقييم مدى القيمة التاريخية والتأسيسية للعمليات التاريخية المركبة المولدة للأزمنة الجديدة. من هؤلاء كورنيليوس كاستوريادس(1922 ـــــ 1997، أحد المجددين في الفكر اليساري المعاصر)؛ الذي يضع إطارا منهجيا تفصيليا حول الكيفية التي يتم بها التأسيس التاريخي. وذلك من خلال إعادة طرحه لأسئلة تبدو بديهية مثل: "ما هو التاريخ؛ وعلى الأخص، كيف ولماذا يوجد تغيير زمني، وفيما يكون تغييرا؛ هل ثمة ظهور للجديد في هذا التاريخ، وما الذي يعنيه هذا الظهور الجديد؟...

ولكنه في إجاباته عنها يجتهد أن يتحرر من الثقافة المركزية الأوروبية التي تطرح "رؤية ـــ أوروبية ــ للتاريخ كلية" مرجعية. كذلك من الرؤية المقدسة للتاريخ سواء كانت دينية أو سياسية يكتبها حزب حاكم قسرا أو سلطة مستبدة. وهو نهج يضمن رؤية “التاريخ كإبداع لا حدود له". ويتعامل مع الحدث التاريخي باعتباره: "إبداعا"، يتسم بالجدة والتأسيس. لأنها ولدت من رحم تصورات راديكالية: خلاقة، ومستقبلية تفاعلت مع حركة المواطنين ووعي المجتمع لذاته ونجاحه في أن يؤسس لمجتمع جديد...بلغة أخرى، يوسع هذا النهج من زاوية الرؤية للتاريخ.

فعلى سبيل المثال، وإذا ما طبقنا هذا النهج على ثورة 1919 (وبالطبع غيرها من اللحظات التاريخية البارزة) فإنه يحررها من النظرة المسبقة والحصرية إليها باعتبارها حاملة للواء الليبرالية. ويدفع إلى التعاطي معها كونها نتاج لإبداع جمعي، بدأ متخيلا، وتجسد فعلا في بنى متنوعة متفردة الروح ومتميزة العقل. ومن ثم على الباحث اكتشاف جوهر الحالة التاريخية للثورة كونها "لحظة وعي المجتمع لذاته ونجاح مواطنيه في تأسيس مادي لما كان متخيلا.  أو بحسب وصف طارق البشري:" وبدوا فرحين واثقين كإنسان وجد نفسه، وأمن ظهره".

     بهذا المعنى يضمن هذا النهج قراءة "طازجة" وموضوعية للتاريخ حيث يتم التقييم من خلال الاستقلال الذاتي للحدث التاريخي بعيدا عن التحيزات الأيديولوجية والإسقاطات والتوظيفات السياسية. كما يعصمه ــ نسبيا ــ من الإنكار، أو الإهمال، أو التشويه، أو المبالغة،...،إلخ. ونضمن أن يكون بحثنا التاريخي هو حالة من حالات الاكتشاف لإبداعات المواطنين في تاريخنا الوطني(أو الإبداعات "المواطنية" إذا جاز التعبير). بعيدا عن التأريخ النمطي الفوقي الذي يتم وفق تحقيب كولونيالي أو  سلطوي. 

’’ثورة 1919 والحضور المواطني وتأسيس المجال العام‘‘...

      في ضوء ما سبق، نقارب التاريخ المصري الحديث. وظني أن هناك ابداعات أو "تأسيسات" كبرى في كل محطة تاريخية بارزة مر بها تاريخنا. فلقد عرفت مصر الحديثة أربع عمليات تاريخية ’’مركبة: خلاقة، وعقلانية، ومواطنية‘‘. أسفرت الأولى عن تأسيس الدولة الحديثة مع محمد علي تقوم على ثلاثة أعمدة هي: الجيش الوطني، والجهاز الإداري ، والمؤسسات الحداثية العلمية والثقافية المختلفة. وذلك في ضوء تحول حاسم في نمط الانتاج حيث الانتقال به من الأسيوي إلى الرأسمالي. أما العملية التاريخية الثانية فقد أسست “للمجال العام" مع ثورة 1919. والثالثة وضعت قاعدة "تصنيعية" عريضة وضخمة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة. واخيرا الرابعة المتمثلة في إطلاق الحركة "المواطنية ــــ الفعل" (تمييزا عن المواطنية ــــ المبدأ والفكر) في مواجهة الاستبداد السياسي في 25 يناير وتواصلت في مقاومة الاستئثار الثقافي والديني في 30 يونيو. 

     وإذا كنا نحتفل مع مطلع هذا العام بمئوية ثورة 1919، والتي تحل انطلاقتها الرسمية في مارس القادم فإننا نبدأ في مقاربتها باعتبارها أنجزت إنجازا تأسيسيا كبيرا بإطلاقها "المجال العام" في مصر. ومن الانطلاق الحر لحركة المواطنين السياسية والمدنية من أجل "الاستقلال التام: الشامل الكامل"...كيف؟

كانت الحالة العامة لمصر، بحسب لويس عوض، "تحت الاحتلال البريطاني في مرحلته الأولى (1882 ــ 1919) هي محلك سر". فلقد وقفت مصر نحو 37 سنة كاملة "في جميع المرافق وقطاعات الانتاج والخدمات إذا اتخذنا مقياسا لنا النسبة بين نمو الدخل القومي ونمو حجم السكان. وحتى الطبقات المدنية التي استجدت تحت الاحتلال البريطاني لم تكن طبقات منتجة سواء من البروليتاريا الصناعية أو من التكنوقراطية أو من البرجوازية المستثمرة في الصناعة وإنما كانت بورجوازية خدمات. نعرف هذا من تحليل الدخل القومي العائد من الاقتصاد المدني كله في الحضر والريف"..."وأكثره حاصل من التجارة والنقل والمواصلات وإيجارات المساكن والإدارة ومختلف الخدمات". ونصيب "الحاصل من الصناعة والحرف اليدوية وأعمال البناء والأشغال العمومية" يعد متواضعا جدا. وعليه يؤكد لويس عوض أن "مستوى المعيشة سواء إلى أعلى أو أسفل لم يتغير " قط. ولم "تتغير نسبة الدخل القومي المدني(المديني) إلى الدخل القومي الريفي ولم يتغير توزيع الدخل القومي بين الأجراء والمالكين أكثر من ثلاثين سنة.". لم يتطور سوى نظام الري. وذلك "بتعميم الري الدائم". ما يمكن" مصر من أن تدفع بانتظام فوائد دينها العام" الموروث من عصري سعيد وإسماعيل. كما "مكن الإنجليز من أن يحولوا مصر إلى بلد زراعي لا أثر للصناعة فيه، وإلى مزرعة خاصة للقطن طويل التيلة تمون مصانع "لانكشاير" بالقطن الخام، ومن فائض صادراتها، بعد دفع فوائد الدين العام، تستورد من انجلترا خاصة ومن أوروبا عامة السلع الاستهلاكية وأدوات الانتاج.".

والخلاصة، أن المصريين انفجروا في ثورة 1919 على الأحوال من خلال الحركة السياسية الحرة التي اتخذت أشكالا عدة في المجال العام الجديد من خلال: المظاهرات، والاحتجاجات،  والانتظام في  التجمعات العمالية، والفلاحية، والمهنية، والفئوية كالتي نظمها الموظفون، والتحركات النوعية كالتي انخرط فيها طلبة المدارس الثانوية، وخرجت فيها المرأة، والتكوينات الحداثية من جمعيات، ونوادي، وروابط، وصالونات ثقافية، ودوريات مستقلة،...،إلخ...إنها نتاج "اقتناص الحرية وممارسة الفعل الثوري" في ما بات يعرف بالمجال العام الذي قاموا بتأسيسه ليكون جامعا بين جميع المواطنين على اختلافهم.

 في هذا المقام من الأهمية بمكان مراجعة مذكرات عبد الرحمن فهمي بك(عضو الوفد المصري) الذي مارس دوره الوطني من خلال قيادته للتنظيم السري لحزب الوفد.

   إنه "الالتفاف القاعدي" الجماهيري من أجل الاستقلال التام بأبعاده المتعددة. ما أعطى للمواطنة التي نعرفها بأنها ’’الحركة الحرة للفعل السياسي والمدني من أجل العدالة، واكتساب منظومة الحقوق بأبعادها: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية/المدنية، والثقافية، والمساواة دون تمييز (بسبب المكانة، أو الطبقة، أو اللغة، أو العرق، أو الجيل، أو الجنس، والدين، والمذهب، والمعتقد، والجهة)، واقتسام الموارد العامة للبلاد ‘‘. ما أعطى المواطنة "مضمونا جماهيريا اجتماعيا"، بحسب وصف نزيه نصيف الأيوبي.

 وقد وصف أبو سيف يوسف ثورة 1919 بأنها "ارتفعت بقضية التكامل القومي بين المسلمين والقبط إلى مستوى لم تبلغه من قبل. ذلك إلى انه إضافة إلى المفاهيم التي طرحتها: الشعب الواحد، والجامعة القومية، والمواطنة فإن تجربة هذه الثورة ما زالت تشكل في التراث التاريخي المشترك أحد الأطر المرجعية الرئيسية التي تتم استعادتها كلما وقعت أزمة في العلاقة بين القبط والمسلمين".

نجحت، إذن ثورة 1919، في استحضار "المغايرين" من الخنادق (الدوائر) ما قبل الحديثة إلى المجال العام؛ ’’لممارسة الشراكة الوطنية‘‘ فصارت خبرة تأسيسية مرجعية يعمل العقل السياسي ــ دوما ــــ على الإحالة إليها والاسترشاد بها. وهذا هو جوهر فكرتنا حول القيمة التأسيسية لما تنجزه الثورات.

     وحول الديناميكية المستجدة تقول حنة أرندت، أن "الحلم المتعلق بمواطنة متكاملة. هو جوهر السعي وراء الحرية السياسية". ولا يمكن ممارسة المواطنة التامة من خلال دوائر الانتماء الأولية وإنما من خلال حضور المواطنين إلى الدائرة الوطنية الجامعة.  

فما كان سابقا يعتبر:

أولا: حكرا على الإثنية الحاكمة الوافدة منذ البطالمة وحتى قيام ثورة 1919 .

 ويعد ثانيا: "مناطق محظورة يقتصر دخولها على الأغنياء والمترفين". أصبح متاحا للمواطنين ليس بالمنح وإنما بالاقتناص.

وظني، أن الخروج الجماهيري "المواطني" من أجل الاستقلال هو "الهدف الإنساني المتميز، والالتزام الوجودي"، الذي أعطى شرعية التأسيس "للمجال العام"، كذلك قيمته التاريخية الممتدة.

  وقد كان للتطابق النخبوي والجماهيري حول الاستقلال أثره في تكريس المجال العام كواقع بفعل حركة المواطنين في كسر كل آليات الضبط التاريخية المعيقة للتقدم سواء قبل تأسيس الدولة الحديثة في مصر أو بعدها. فلم يعد هناك الحاكم الرب أو الأب الذي ينوب عن القاطنين بالبلاد في كل الأمور والذي في الأغلب يكون وافدا. وإنما باتت هناك طبقة تمارس دورها كنخبة/طليعة سياسية ومدنية قاعدتها المواطنون الذين لم يعودوا بعد "مقيمين" وإنما "مواطنون فاعلون" يحددون "الاستقلال التام" مطلبا وطنيا تاريخيا. ويصيرون مصدرا لشرعية النخبة السياسية في النضال من أجل الاستقلال. 

وبعد، إن ثورة 1919 قد نختلف عليها أو نتفق...إلا أن تأسيسها للمجال العام وإطلاقه وتشغيله من قبل المواطنين هو من أهم ما يجب الاحتفاء به والتمعن في عمق دوره للعملية السياسية بمعناها المعاصر. فهو الميدان الذي تنطلق منه الحركية المجتمعية ببعديها السياسي والمدني...

مصادر الدراسة:

  • ف. جوردون شايلد، التاريخ، ترجمة عدلي برسوم عبد الملك، مكتبة الأفكار رقم 1(إشراف أنور عبد الملك)، الدار المصرية للكتب، د.ت.
  • ر.ج. كولنجوود، فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، لجنة التأليف والترجمة والنشر،
  • لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل إلى ثورة 1919: المبحث الأول: الخلفية التاريخية، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
  • عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 إلى سنة 1936، مكتبة مدبولي، ط2،
  • مذكرات عبد الرحمن فهمي: يوميات مصر السياسية، سبعة أجزاء،(إشراف وتقديم حمادة إسماعيل، وإعداد وتحقيق مسئولة عطية علي)، دار الكتب والوثائق القومية، مركز تاريخ مصر المعاصر،
  • محمد أنيس، دراسات في وثائق ثورة 1919؛ المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي، تاريخ المصريين 20،
  • سمير مرقص، الأقباط من "انتزاع المواطنة" إلى "اصطناع الأقلية" و"اختراع الملة"، في لا عروبة من دون المسيحيين، مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية،
  • نزيه نصيف الأيوبي، الدولة المركزية في مصر، مركز دراسات الوحدة العربية،
  • أبو سيف يوسف، الأقباط والقومية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،
  • سمير مرقص، أقباط ومسلمون من سلطة الغلبة إلى دولة المواطنة،(تحت الطبع).
  • فيليب هانسن، حنة أرِندت: السياسة والتاريخ والمواطنة، ترجمة خالد عايد ابو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،
  • Marwick, Arthur. The nature of History. Great Britain; Open University Press,1971.
  • Cornelius, Castoriadis. The Castoriadis Reader. U.K.: Blackwell Publishers, 1997.
  • Thomassen, Lasse. Habermas: A guide For The Perplexed. London:continuum,2010.
  • Arendt,Hannah. On Revolution.London:Penguin,1965.
  • Goldschmidt, Arthur & Johnson ,Amy J. & Salmoni, Barak A.(eds.).Re – Envisioning Egypt 1919 – 1952. Cairo: American University Press.

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern