صدام العولمة في المركز والخصوصيات الثقافية في الأطراف

من الأسئلة التي أن يعاد طرحها، هل العلاقة بين أعضاء المنظومة الدولية.. صدامية، بين الحضارات/الثقافات /الأديان كما يقول هنتينجتون، أم بين الأصوليات بحسب طارق علي،أم بين المتحضرين والبرابرة مثلما كتب مارك سالز... وهل يمكن أن يكون غير ذلك؟

محاولة تديين الصراع العالمي

ظل المجتمع الدولي يحمل شرعية وستفاليا،أي التأكيد على فكرة الدولة القومية وسيادتها،التي ولدت في أوروبا بعد حرب دينية مذهبية استمرت لسنوات. حيث تم الاتفاق على مبدأي السيادة والمساواة لكل دولة وفيما بينها في إطار العلاقات الدولية. بيد أن هذا المبدأ مورس في إطار أوروبا ولم يمتد بطبيعة الحال إلى الدول المستعمرة،وحتى عندما استقلت هذه الدول حاصر الغرب الصراعات الدينية و الإثنية والعرقية،وأصر أن تمارس هذه الدول المستقلة حديثا مهام الدولة القومية مثل أوروبا دون أن تحسم صراعاتها الداخلية.
ولاعتبارات ترتبط بمولد قوة تحمل طابعا اشتراكيا في بداية القرن العشرين،تبعتها كتلة دولية تحمل نفس الطابع،كانت السمة الرئيسية للنظام الدولي على مدى القرن العشرين تقريبا سمة صراعية بين الكتلتين الرأسمالية /الغربية،والاشتراكية/الشرقية،وعليه توارت الرؤى الثقافية والدينية على مدى سنوات الحرب الباردة.وإن كان هذا لم يمنع الولايات المتحدة الأمريكية أن تستعيد مفردات دينية في صراعها الأيديولوجي مع الإتحاد السوفييتي،وهو ما لجأ إليه ريجان في سنة 1980 عندا أعطى الفرصة لليمين الديني في أن يكون طرفا في الحرب الباردة ووصف الإتحاد السوفييتي بالشر الذي يجب اقتلاعه لصالح الخير..وهكذا تم تحويل النظر عن طبيعة الصراع الأساسية إلى منطقة أخرى.
لذا يجمع الكثيرون ممن تناولوا هذه الفترة بالتحليل،أن إدارة الرئيس ريجان (1980 – 1988)، كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة من حيث توظيفها للدين في سياستها الخارجية،وجعل الدين طرفا في منظومة العلاقات الدولية. وجاء مؤلف صدام الحضارات في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، ليروج لفكرة حدود الدم ذات الطبيعة الدينية.ولعل ما دعم حضور الدين كطرف في الصراع الدولي،هو أنها أخذت طريقها في الوجود متجاوزة القوميات والأوطان،فأصبحت عولمية الطابع على المستويين الفكري والحركي Transnational Ideas & Movements .
ومع انتهاء الحرب الباردة دخل النظام الدولي مرحلة جديدة،فهناك طرف منتصر يعبر عن نفسه بأنه قوة عظمى وحيدة Lonely Super Power،ويمارس سلوكا إمبراطوريا مطلقا عولمة شرسة تتسم "بأيديولوجيا السوق"وآلياتها،وغلبة النشاط المالي التي تزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء،الأمر الذي استيقظت معه الهويات الذاتية لكثير من الجماعات والقوميات التي كانت كامنة وقت الحرب الباردة،وهو ما عبر عنه بنيامين باربر"بالجهاد في مواجهة عالم ماك". أي أن هذه الهويات و الذاتيات أصبحت تلعب دور المقاومة،أو هكذا تظن..لماذا؟

فخ تغطية المصالح بالدين

لاشك من حيث المبدأ أن العولمة قد أثارت الكثير لدى الدول العالمثالثية،وهو ما رصده مبكرا العالم البريطاني الكبير جيدنز في كتابه Consequences of Modernity،حيث ذكر أن العولمة"تفكك بقدر ما تنسق وتساوي في الدمج"..فعالم ما بعد الحداثة بكل انجازاته غير قابل للاستيعاب من قبل الدول التي لم تعرف الحداثة أو لم تقطع شوطا مقبولا منها. بيد أن الفخ الذي وقعنا فيه أن قبول قوى العولمة في المركز أن يستخدم الدين للتغطية على المصالح الحقيقية،من حيث السيطرة على الثروات وضمان تدفق المال إلى خزائن الغرب وبقاء الكثير من الدول أسواق في هذا الإطار. ولإنجاح ما سبق تم الترويج بإتقان إلى أن الصراع هو في حقيقته ديني بين الغرب والشرق،وفي طبعة أخرى تم الترويج إلى فكرة المتحضرين والبرابرة وهي فكرة تم استعادتها من تراث التوسع الكولونيالي.
ولأن الشركات العابرة للقوميات هي المنوط بها إدارة الاقتصاد العولمي،فإنها استطاعت أن تستميل بعض الهويات و الذاتيات من خلال العقود الاقتصادية،بعيدا عن سيطرة الدولة الوطنية..(وهو ما لفتنا النظر إليه في العدد الماضي)،ومن ثم يصبح العقد الاقتصادي بمثابة إسباغ الشرعية على هذه الهوية في مواجهة الهويات الأخرى التي تعيش على نفس الرقعة الجغرافية(يشار إلى نموذج العراق)،ما يعني أن يظل التوتر حاضرا دوما لان العولمة تلعب على التفكيك،كذلك ترويضها من قبل الغرب فلا تعد مقاومة. على الجانب الآخر نجد الخصوصيات التي لم تزل تتمسك بالمقاومة تسلك نفس السلوك الذي تقوم بمقاومته،وتعيد النمط الاقتصادي الذي يتبناه الغرب..وهو ما أشار إليه بذكاء شديد الأستاذ حلمي شعراوي في قراءته الدقيقة لبرنامج الإخوان المسلمين( مقاله المنشور في جريدة البديل 11/10/2007) من حيث تبني مشروع رأسمالي تجاري يجعلها في قلب المشروع الذي تعتبره مشروعا نقيضا. وهنا تجدر الإشارة إلى نموذجي حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية في نقدها رفيع المستوى للمشروع النيوليبرالي..كذلك بعض الاتجاهات التقدمية في إيران التي استطاعت أن تدرك الفرق بين أن تكون مواجهتها لأيديولوجيا السوق على أساس طرح مشروع قومي إيراني بديل،ففي الحالتين نجد أنفسنا أمام مشروع اجتماعي –ربما يستلهم الدين- ولكنه لا يقع في فخ أن الصدام ديني أو بين متحضرين وبرابرة،لان الصدام في حقيقته صدام مصالح بين العولمة في المركز وبين الخصوصيات الثقافية في الأطراف التي تحتاج إلى التوحد و تطوير مشروع اجتماعي مناهض للعولمة .


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern