"اليسار "اللاتيني

مع مطلع العام 2006، استطاعت قوى اليسار في أمريكا اللاتينية أن تصل إلى الحكم بالانتخاب الحر المباشر في أكثر من بلد(تشيلي، البرازيل، بوليفيا..)، الأمر الذي مثل تجربة هامة ومتميزة في تاريخ النضال الإنساني، وخبرة جديرة بالفهم والدراسة والتأمل..يا ترى ما هي أهم ملامح هذه التجربة، ومضمون هذه الخبرة...

التاريخ مدخل لفهم الواقع

لفهم ما يحدث في أمريكا اللاتينية، لا غنى عن إلقاء الضوء على بعض المحطات التاريخية الهامة في مسيرة هذه القارة العريقة في القدم، وفي هذا المقام يمكن أن نرصد ما يلي:
• منذ أن اكتشف الأوربيون قارة أمريكا اللاتينية أخذوا في بناء مستعمرات متميزة فيها عن مستعمرات أفريقيا وآسيا، وتبلور ما يسمى بالاستيطان القهريCoercive Settlement فباتت دول القارة المكتشفة حديثا تابعة أو ملحقة بالدول الأوروبية الأم.
• أجبرت دول أمريكا اللاتينية أن تنتج من أجل التصدير للدول التي تستعمرها، مما جعل اقتصادها يأخذ طابعا رأسماليا.
• في لحظة تاريخية معينة حلت الولايات المتحدة الأمريكية محل أوروبا في السيطرة على أمريكا اللاتينية وذلك بتطبيق مبدأ مونرو سنة 1823(نسبة إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو)الذي أعلن حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل القوى الأوروبية في سيطرتها على دول القارة اللاتينية،محذرا من نتيجة التدخل بأي شكل من الأشكال في هذه المنطقة التي اعتبرتها أمريكا حديقتها الخلفية. ومع التوسع الأمريكي الذي وصفناه في كتابنا الإمبراطورية الأمريكية:ثلاثية الثروة والدين والقوة بالتوسع من الداخل إلى الخارج،أي سيطرتها على أراضي خارج حدودها بشكل منتظم،أعلن تيودور روزفلت سنة 1905 سياسة "العصا الغليظة" Policy of Big Stick،وهي السياسة التي بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة دور الشرطي في أمريكا اللاتينية.
• في ضوء الهيمنة الأمريكية استأثرت أمريكا بالموارد الأولية كالنحاس والنفط والحديد والمعادن والمحاصيل والفواكه.وتوالت سياسات متنوعة كانت تعكس محاولات نضالية دءوب لإقرار علاقة أكثر توازنا بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية، حيث أعلنت سياسة حسن الجوار 1934ومعاهدة ريو1947،وتأسست منظمة الدول الأمريكية 1948،بيد أن كل هذه الآليات لم تمنع من تعاظم التناقضات بينهما.
• وبالرغم من بقاء دول أمريكا اللاتينية في أسر الهيمنة المالية والصناعية والتقنية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وتكوين شبكة مصالح اقتصادية تابعة للخارج،والإذعان لوصفة البنك الدولي،والغرق في دوامة الديون الضخمة في ظل دكتاتوريات باطشة..إلا أن أنه دائما كانت هناك محاولات للخروج من هذا الأسر.

لليسار در:حصان أبيض ينطلق

إن أكثر المتفائلين من المتابعين للشأن اللاتيني، لم يكن يتوقع لدول أمريكا اللاتينية أن تصل لما وصلت إليه..وكيف يحدث هذا ولم تزل مجزرة الانقلاب على سلفادور الليندي- الذي وصل بحكومة ماركسية إلى الحكم بالانتخاب الحر المباشر في تشيلي عام 1973 - ماثلة في الأذهان.الانقلاب الذي كان تعبيرا عن تحالف الشركات المتعددة الجنسية والرأسمالية التشيلية والجنرالات ورجال دين محافظين وبدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو موثق في كثير من الدراسات والكتب مثل كتاب Cry of People،كما تعرض له فيلم مفقود Missing للمخرج الشهير كوستا جافراس،أقول كان من الصعب تخيل حدوث أي تغيير.بيد أن القارة اللاتينية التي كانت مسيرتها (كما ذكرت في دراستنا المبكرة عن تجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية 1994)، مسيرة ممتدة من النهب المستمر،لم تستسلم وانطلقت كالحصان الأبيض الذي ظهر في فيلم "مفقود"في ظلام الليل تطارده رصاصات القهر معطيا الأمل في أن هذا الظلام لابد له وأن ينجلي وأن نور التحرر آت لا ريب في ذلك.ما الذي حدث ومكن شعوب هذه الدول في الانطلاق؟
توحدت القوى الوطنية على اختلافها ونزلت للناس وقامت بتنظيم أنفسها من خلال الروابط الفلاحية والحركات الشبابية والمنظمات النوعية، وتفاعل الفكر الديني مع آمال الناس واستطاع أن يبلور مشروعا اجتماعيا تقدميا،يتجاوز الفهم الكلاسيكي في تقديم الخدمات ذات الطابع الخيري إلى إثارة الوعي لدى الناس بسوء أوضاعهم بسبب الظلم الاجتماعي وضرورة تحقيق العدل والمساواة،ويشار هنا إلى البنية الطبقية اللاتينية والتي تشكلت تاريخيا في إطار رأسمالي مبكر- كما أشرنا في البداية- قد استطاعت بالرغم من مسيرة النهب والتبعية أن تتحرر. وفي لحظة تاريخية معينة تشكل في أكثر من دولة ائتلاف اليسار الذي وضع رؤية لتقدم هذه الدول لاقت الاستجابة والمساندة، وساهمت في أن تتحرك هذه المجتمعات نحو اليسار،ويصبح شعار لليسار در( وهو الوصف الذي وصفنا به هذا التحول في حينه في مقال كتبناه في فبراير 2006،وسعدنا أن مجلة فورين أفيرز في عددها الصادر في مايو 2006 قد نشرت دراسة عنوانها Latin America's Turn to the Left)،شعارا يعبر عن تحول هام في تاريخ قارة أمريكا اللاتينية من جهة،والتاريخ الإنساني من جهة أخرى.فماذا كانت تحمل هذه الرؤية؟

كلمة السر:العدل الاجتماعي

يمكن القول أن تحالف اليسار بما ضم من قوى متنوعة من اشتراكيين،وماركسيين،وديمقراطيين،ودينيين(كما حدث في تشيلي والاورجواي،...)، قد اتفقت على أن تحقيق العدل الاجتماعي هو المهمة الأولى، وذلك بمكافحة الفقر وتأمين الرعاية الصحية والتعليم وتوفير الخدمات الأساسية وإتاحة فرص عادلة بين الجميع.وكان المدخل لذلك هو التوزيع العادل للثروة الوطنية بين جميع المواطنين، فالشعب شريك في عوائد التصدير وبخاصة للثروات الطبيعية الرئيسية مثل النفط والنحاس..الخ. ولأن التوزيع العادل للثروة لا يكفي وحده لانجاز التقدم فإن التصنيع من جهة،والمشاركة العملية في التطور التكنولوجي هما الكفيلان بتحقيق التقدم. لذا فان التركيز على أهمية مواكبة التطورات التكنولوجية في شتى المجالات مكن البرازيل من أن تكون لاعبا أساسيا في مشروع جينوم الوراثي الهام،وأن تكون تشيلي في الترتيب التاسع في مجال تكنولوجيا المعلومات،وتشير التوقعات إلى الحصة المتزايدة للقارة اللاتينية في معدل الاستثمارات في مجال تكنولوجيا المعلومات الذي يبلغ 75 مليارا من الدولارات ( إجمالي الاستثمارات العالمية تبلغ 125 مليار دولار)،ويشار إلى أن كوستاريكا – نعم كوستاريكا تأتي بعد الصين والهند في قائمة مصنعي البرمجيات اللينة Soft Ware،والرقائق الالكترونية الدقيقةMicrochips،واستحقت أن يطلق عليها الجمهوريات الرقمية Digital Republics. وعليه وبمراجعة تجارب البرازيل وتشيلي وأورجواي تم خفض نسبة الفقر من 40 % إلى 18% في تشيلي ،وزاد معدل النمو إلى أكثر من 7% في المتوسط،وارتقت نوعية التعليم وقويت الطبقة الوسطى.
تضمنت هذه الرؤية أيضا استعادة قيمة الوطنية بغير انغلاق،وهو أمر يحتاج وحده إلى دراسة متعمقة وخاصة مع المقولات التي تدعي نهاية مفهوم الوطنية،كذلك التأكيد على تمكين الناس إيمانا بان لدى كل مواطن ما يمكن أن يقدمه في المشروع التنموي المطروح،كما تم وضع سياسة تبدأ بالمناطق الأكثر فقرا. وبالأخير نجحت دول أمريكا اللاتينية في أن تؤسس تنظيما يحمل مشروعها العام على نسق الاتحاد الأوروبي،للدفاع عن مصالحها وبلورة آلية جماعية للتفاوض مع ما قد يهدد هذا المشروع مثلما حدث مع إفشال الفكرة التي طرحها الرئيس بوش في إقامة سوق أمريكية مشتركة بما كانت تحمل من أفكار ضارة لدول أمريكا اللاتينية .
إن تجربة اليسار اللاتيني كما ذكرت تجربة جديرة بالاهتمام، كما أن خبرة كل دولة من دول القارة اللاتينية تحتاج لدراسة تفصيلية من حيث الرؤية الفكرية، والقدرة التنظيمية، والتواصل مع الناس، واستيعاب المستجدات العالمية السياسية والعلمية..وتقديم صيغ مبتكرة قابلة للتنفيذ على قاعدتي العدل الاجتماعي والمساواة.

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern