قراءة التجارب الناجحة للآخرين، والاستفادة من دروسها، أمر مهم. في هذا السياق يأتي اهتمامنا بالتجربة الهندية.البداية كانت جملة عابرة في إحدى مقالات الكاتب الراحل محمد سيد أحمد أشار فيها إلى أن الهند باتت الدولة الثانية في العالم في تصدير إلSoft Ware (يعود عليها بما يقرب من 15 مليار دولار). بعد شهور كنت عائدا من أمريكا عبر روما(منتصف عام 2005)،
وكان علي أن أبقى في المطار لعدة ساعات لاستئناف الرحلة إلى مصر.. أثناء الانتظار وجدت مجموعة من الشباب الهندي وقد جلسوا في هدوء شديد حيث انكب كل واحد منهم على تشغيل "اللاب توب" الخاص به حتى موعد قيام الطائرة التي تقلهم إلى الهند.. والتي تحركوا إليها في نظام مثير (كان المصريون في نفس الوقت في حالة تسارع وصخب وتزاحم على المخرج المؤدي للطائرة المتجهة لمصر). ومع مطلع العام 2006 توالت الزيارات على الهند لشخصيات هامة هي على التوالي: جاك شيراك،وجورج بوش،والملك عبد الله بن سعود،وجون هوارد رئيس الوزراء الأسترالي، بالإضافة إلى بيل كلينتون.. وأخيرا تم توقيع اتفاقات للتعاون على رأسها اتفاقية إستراتيجية هامة للتعاون النووي...
يا ترى ما الذي جعل الهند بهذه الأهمية؟،وما الذي لديها من مقومات أدت لتكون مجالا للجذب؟ وكيف تقدمت تكنولوجيا؟ أو بلغة أخرى لماذا وكيف يتقدم الآخرون؟... إنها خبرة جديرة بالتأمل والدراسة...(وسوف يلاحظ القارئ المتابع كم ما يكتب عن التجربة الهندية في الآونة الأخيرة في الدوريات العالمية لعل أخرها ملف عدد التايم الأخير الذي تم تخصيصه عن الهند،وهو ما لفتنا النظر له مبكرا عند زيارة بوش للهند في مقال بعنوان خبر لم يهتم به أحد).
الهند:أرقام لها دلالة:
تقول الدراسات أن الهند من أسرع الإقتصادات الكبرى نموا في العالم على مدى الخمسين عاما القادمة،وذلك لان قوتها العاملة لن تشيخ بسرعة نظيراتها في البلدان الكبرى. وتقدر الدراسات أنه خلال:خمس سنوات سوف تتقدم الهند على إيطاليا، و عشر سنوات ستتقدم على بريطانيا. وبحلول العام 2040سيصبح الاقتصاد الهندي ثالث أكبر اقتصاد في العالم.وفي غضون عقد من الزمان بعد ذلك أي عام 2050 سيبلغ حجم الاقتصاد الهندي خمسة أضعاف الاقتصاد الياباني.
أما عن الدخل القومي للفرد فسيتضاعف 35 مرة عن وضعه الحالي، ومن المنتظر أن يرتفع معدل النمو السنوي من 7.5%عام 2005 إلى ما يقارب 10% خلال العامين القادمين. وتنمو الشركات الهندية التي تعمل في المجالين الصناعي والتكنولوجي بسرعة مذهلة،حيث تتراوح أرباحها بين 15% و25%،تشمل صناعات السيارات والفولاذ والبرمجيات والخدمات الاستشارية،والتي ارتفعت عوائدها من 17 مليار دولار عام 2005 إلى 24 مليار دولار عام 2006. ويشار إلى أن جنرال موتورز عام 2008 سوف تستورد وحدها قطع سيارات من الهند بما قيمته مليار دولار.
واللافت في التجربة الهندية أن النمو ليس قاصرا على قطاعات بعينها‘فقطاع الزراعة ينمو بنسبة 11%،أخذا في الاعتبار أن 60% من إجمالي قوة العمل تشتغل بالزراعة. وقطاع التصنيع ينمو بنسبة 9%، وقطاع الكهرباء ينمو بنسبة 7%، وهكذا. في ضوء ما سبق باتت الهند بنهاية عام 2005 الدولة الثانية في العالم المفضلة للاستثمار بعد الصين حيث حلت محل الولايات المتحدة الأمريكية في الترتيب الدولي. ولكن ما سر هذا التقدم ؟
"الخلطة" الهندية:
جملة عوامل وراء الحادث في الهند من تقدم،جعلت الفيل الهندي أشبه بالطائر المحلق في سماء الاقتصاد العالمي نحو المستقبل بكل فرح، يمكن رصدها كما يلي:
أولا،المتابع للشأن الداخلي الهندي يستطيع أن يدرك مدي الحيوية و الديناميكية التي يشهدها المجتمع الهندي في ظل حكومة التحالف بقيادة حزب المؤتمر المدعوم بعدد من الأحزاب اليسارية من دون مشاركة في الحكم،حيث تم وضع خطة وطنية استطاعت برغم كثير من الانتقادات أن تمزج بين "الحرية الاقتصادية" و"البعد الاجتماعي" فأعلنت المبادئ التالية :
1) تأمين معدل نمو سنوي بنسبة لا تقل عن 7 إلى 8% بهدف تحسين فرص العمل.
2) تحسين أوضاع المزارعين و العمال خاصة في القطاعات غير الرسمية .
3) كفالة حقوق المرأة كاملة.
4) تأمين" تساوي" الفرص في قطاعي التعليم و العمل بالنسبة للطبقات الدنيا
وللقبائل والأقليات الدينية .
5) تنشيط ديناميكية كافة القوى المنتجة في البلد والحكم السليم .
6) محاربة كل الأصوليات و نشر التناغم الاجتماعي من خلال فرض الطابع العلماني
للحكومة الهندية.
ثانيا، ينفذ هذا البرنامج في إطار ديمقراطية تاريخية عريقة، تم تجديدها بالتأكيد على أن الديمقراطية وحدها هي الكفيلة بحكم الهند شديدة التنوع(17 لغة و22.000 ألف لهجة و حضور للديانات وللعقائد الرئيسية)، ديمقراطية تمتد لكل بقعة في الهند، وتلزم بأن يكون 33% من أعضاء مجالس القرى من النساء، وعليه نجد نتيجة لذلك أن هناك مليون امرأة منتخبة في القرى. وأن هذه الديمقراطية السياسية يجب أن يكون لها تعبير اجتماعي حيث تمتد بالمساواة للجميع، من خلال توفير فرص تعليمية وصحية وتنموية لكل طبقات المجتمع وسكانه الذين بلغوا مليار نسمة،(الفقراء يبلغون 300 مليون نسمة ولم تزل المناطق الذين يعيشون فيها أدنى بكثير من هذا التقدم،بيد أن كل المؤشرات تقول أنه لن تكون بعيدة عن التغيير وتحقيق نهوض في حده الأدنى).
ثالثا، النهضة التعليمية، فلقد ارتفع الإنفاق على التعليم من 1.2% من الإنفاق الإجمالي للفرد عام 1983إلى ما يقرب من 5% عام 2003، وفي المناطق الحضرية ارتفعت هذه النسبة من 2.1 % إلى ما يقرب من 7%. وأتاحت تجربة المدارس الخاصة الشعبية واسعة الانتشار في الأحياء الفقيرة والقرى في كل أرجاء الهند أن يقبل الفقراء على إرسال أبنائهم خاصة وأن رسومها تتراوح بين دولار وثلاثة دولارات شهريا. وتتميز المدارس سواء الخاصة بالنخبة والمخصصة للفقراء بالجودة التعليمية من دون تمييز كذلك بإعداد الشباب الهندي للدخول في اقتصاد المعرفة. وفي هذا المقام لابد من الإشارة إلى أن أكثر من 125 شركة عالمية (من أصل 500 شركة الأهم عالميا) لديها مراكز أبحاث وتطوير في الهند حاليا.
رابعا، هناك العديد من الأفكار المبتكرة لحل المشكلات المزمنة وخاصة في القطاع الريفي من خلال ما عرف "بالبرنامج الوطني للإنماء الريفي".
وبعد... كل ما سبق يحدث في ظل تنامي للحريات غير مسبوق في الهند وتأكيد على الطابع المدني للدولة،ونجاح في تحقيق الشراكة النووية مع الولايات المتحدة الأمريكية...إن تجربة الفيل الهندي الذي يقفز بكل ثقة نحو المستقبل تجربة جديرة بالقراءة والاستفادة...ويوضح المظهر الحضاري الذي يتسمون به متى قابلتهم في أي مكان في العالم..كما يفسر التزايد المطرد لعدد الهنود الذين ينضمون كل يوم لموكب العلماء المعتبرين في شتى المجالات مدى أهمية هذه التجربة وضرورة الاستفادة منها وهو أمر لا عيب فيه وهم أنفسهم كانوا معجبون بتجربة حزب الوفد المصري في الربع الثاني من القرن الماضي...
هل يا ترى استطعنا أن نجيب عن السؤالين اللذين طرحا في المقدمة حول لماذا وكيف يتقدم الآخرون؟