أ) " لا مهلة"؛
كان هذا هو رد كل من القنصلين البريطاني والفرنسي على الخديو إسماعيل،عندما التمس منهما مهلة إضافية لما حان موعد سداد دفعة من الدين المستحق على الحكومة المصرية، كي يتمكن من تدبير المال اللازم،حدث هذا في أبريل من سنة 1878. لم يكن الأمر مجرد عدم توفر مال في
خزينة الدولة،وإنما أكثر سوءا من ذلك،حيث كان إسماعيل قد باع نصيب مصر في أسهم قناة السويس لانجلترا،ورهن 950ألف فدان ( خمس الأراضي المنزرعة في مصر آنذاك).ولم يكتف بذلك وإنما رهن محصول القمح قبل أن يحصد.لقد كانت ميزانية مصر وقت تولي إسماعيل الحكم في سنة 1863مايساوي خمسة ملايين جنيها إسترلينيا، وبسبب الاستدانة أصبحت مصر في السنة الأخيرة من حكمه عليها قروض تصل قيمتها إلى 98276660 مليون جنيه استر ليني،(بحسب محمود عوض في كتابه متمردون لوجه الله).
ب)" المصريون يتحركون"؛
في هذا السياق بدأت قوة اجتماعية من المصريين كانت قد تملكت الأرض الزراعية للمرة الأولى تتحرك، ليس دفاعا عن الحاكم الذي أوقع مصر في دائرة خبيثة من الديون،وإنما دفاعا عن مصر وعن استقلالها، وذلك بأن أعد الأعضاء منهم في مجلس شورى النواب مشروعا للميزانية المصرية عرف باسم اللائحة الوطنية، يتعهدون فيها بتسديد أقساط الديون بضمانة أموالهم وأملاكهم.وفي نفس الوقت شهد المجتمع المصري تحركا في إطار المجال المدني ..فها هو النديم في مواجهة الوضع المزري الذي وصلت إليه مصر "مما جلبه الحكام من مقت...ووقوف أهل البلاد تحت رجم الاستبداد"، يرى في اللجوء إلى الناس الحل في تجاوز المحنة، وذلك" بعصبية يكونها من الفقراء".
وخرجت هذه العصبية في شكل جمعية خيرية هدفت إلى " النفع العام للبلاد،وكوسيلة لتعليم أبناء الشعب فقيره وغنيه،وشد أزر الضعيف منهم حتى تنهض البلاد ويعرف أبناء الوطن وخصوصا الفقراء حقوقهم وواجباتهم ". وعنيت الجمعية بالتعليم فأسست مدرسة لتعليم وتثقيف البنين والبنات الفقراء والأيتام منهم مجانا "وذلك "لإبعاد الأطفال عن التعصب لدين أو عنصر وتنشئتهم على الوطنية وحب الإنسانية".
ج)"عصبية الفقراء"و"الوطنية المصرية"؛
ملمحان يمكن رصدهما مما سبق، الأول التحرك في المجال العام على أساس "المشترك الاجتماعي" بين الناس بغض النظر عن الانتماء الديني والعشائري والطائفي. وفي هذا المقام يطرح النديم تعبير "عصبية الفقراء"أي التضامن والتعاضد بين الفقراء من المصريين يتجاوز العصبية القائمة على العلاقة بين ذوي القربى ورابطة الدم وأبناء العشيرة الواحدة(بحسب ابن خلدون). ويترتب على ماسبق إمكانية اعتبار الحركة التي تجمع فقراء المصريين من أجل الدفاع عن حقوقهم ومقاومة الاستبداد إرهاصة لبزوغ المواطنة المصرية التي أصبح مجال حركتها كل الوطن،وهدفها تحقيق الصالح العام لكل المصريين وليس صالح عشيرة أو طائفة دون أخرى. أنه نوع من التكافل والتضامن والتعاضد" الأفقي"- أي الذي يمتد أفقيا في جسم المجتمع- الذي يجمع بين المواطنين بغض النظر عن الاختلافات الدينية والطائفية والعشائرية والتي إذا اكتفى بها المرء تعني تكون أوطان متعددة في داخل الوطن الواحد.بلغة أخرى، فان انكفاء الفرد على عصبيته الدينية أو الطائفية أو العشائرية يعني إعلاء مصالح هذه العصبيات والتي تكون في حالة رأسية ومتوازية فيما بينها على حساب الإطار الأعم ألا وهو الوطن،وبدلا من أن يجتمعوا معا في مواجهة ما يتهددهم من فقر وديون واستبداد سوف يتناحرون فيما بينهم.
من هنا يأتي الملمح الثاني الذي أكد عليه عبد الله النديم هو" الوطنية المصرية"باعتبارها الإطار الجامع لكل المصريين، واحتلت فكرة التنشئة الوطنية موقعا مركزيا في خطبه وأعماله، وأخذ يردد كلمات من عينة الغيرة والنخوة والمصلحة والحمية الوطنية،وكانت لكتاباته أثرها في إشعال نار الوطنية المصرية،وهو ما شعر بخطورته اللورد كرومر فكان وراء غلق مجلته الأستاذ ونفيه...لم تكن الوطنية لدى النديم شعارا إنشائيا وإنما كانت نضالا وحركة على أرض الواقع،وكان يحذر من التعصب للعنصرية والدين وأثرهما الوبيل في وحدة الصف.
د) المحصلة؛
يمكن القول أن ما طرحه النديم يعكس خبرة عملية للمواطنة البازغة في الحالة المصرية – تحتاج لدراسة تفصيلية- إذا ما اتفقنا على أنها تعبير عن حركة الناس مشاركين ومناضلين على أرض الواقع من أجل بلوغ الحقوق والمساواة واقتسام الموارد العامة للبلاد(وهو التعريف الذي طرحناه في كتابنا المواطنة والتغيير). وأنه في أثناء هذه الحركة يلتئم الناس بغض النظر عن إنتماءتهم الأولية ،بروابط تجمع بينهم وتمثل تحديا لهم مثل الفقر ومن هنا كان لتعبير "عصبية الفقراء" أهميته العبقرية بفضل النديم من جهة،و تأكيده على الوطنية كإطار جامع للمصريين يتحركون من خلاله لمواجهة ما يواجهونه من تحديات من جهة أخرى دورهما في أن تقترب مصر- ولو جزئيا- من المواطنة،التي تبلورت في بعديها السياسي والمدني في ثورة 1919لاحقا،ثم اقتصرت على البعد الاجتماعي مع ثورة يوليو.
ما أحوجنا إلى تفعيل مفهوم عصبية الفقراء في إطار وطني جامع ومن ثم تحقق المواطنة.
وبعد...يقول النديم:
" لكي تبلغ الأمة القوة وتحرز المجد لابد من إتحاد أفرادها،
فكل أمة اتحدت لها محبة الوطن..واجتمعت قلوبها..
وأسست أعمالها على قواعد التعاون ودعائم الارتباط ونبذ التهاون فلا شك أنها
تحرز قوة واقتدارا يجلب الخير العام".