نحو تفكيك منظومة إعاقة التغيير – المواطنة

لماذا تغيب المواطنة عن أرض الواقع بالرغم من الحديث المكثف حولها،هذا هو السؤال الذي سوف نحاول الإجابة عنه،إنه سؤال عن المواطنة الغائبة "Absent Citizenship" ، و تفسير ما الذي يعوق دون تحقق المواطنة و تغييبها أو إحداث التغيير حيث أن المواطنة لدينا هي التغيير،كيف؟
بداية المواطنة هي تعبير عن حركة الإنسان اليومية مشاركا ومناضلا من أجل حقوقه بإبعادها المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية

والاقتصادية على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب ، واندماج هذا المواطن في العملية الإنتاجية بما يتيح له اقتسام الموارد العامة والثروة الوطنية مع الآخرين الذين يعيشون معه في إطار الوطن الواحد . والمواطنة بهذا المعنى تتجاوز الرؤى التي تحصره في الولاء والانتماء أو المفاهيم ذات الطبيعية المثالية والمعنوية والمشاعرية فتفصل المواطنة عن الواقع وتجعل منها تكراراً للتربية القومية التي كنا ندرسها في الماضي في المدارس كما لو كان الأمر هو أن تعلم هذه القيم سيترتب عليه تحققها تلقائيا .

وعليه فليس غريبا أن الحديث عن المواطنة في كل الأدبيات العالمية وفي الممارسات التي اختبرتها جدياً لا يستقيم و تكون له أهمية من دون الحديث عن السياق الاجتماعي الذي تمارس فيه ، وما يعنيه من ضرورة فهم المواطنة وعلاقاتها بالبناء الطبقي السائد والأيديولوجية المهيمنة وهيكل الدولة وطبيعتها ونمط الإنتاج وموازين القوى الاجتماعية ( راجع مراجعتنا لخبرة الطبقة العاملة في بريطانيا في كتابنا المواطنة والتغيير).

والسؤال الملح الآن لماذا هناك إعاقة لحدوث التغيير بإبعاده المركبة وتفعيل المواطنة في الواقع المصري رغم تعالى الأصوات من شرائح اجتماعية مختلفة تمثل الأغلبية من المصريين الذين باتوا يرون الواقع غير مطابق لأحلامهم وطموحاتهم في تأسيس دولة مدنية حديثة.
وفي ضوء كل ما تقدم يمكن القول أن هناك ما يمكن تسميته" بمنظومة إعاقة المواطنة - التغيير" ، تتسم هذه المنظومة بالترابط الشديد بين عناصرها من حيث وحده المنافع والمصالح فكونت فيما بينها عائقا حقيقيا لأحداث التغيير – وتفعيل المواطنة، ولا سبيل لإحداث التغيير إلا بتفكيك هذه المنظومة،التي تتكون من العناصر الآتية :

1- الليبراليون الجدد؛ الذين يؤمنون باقتصاد السوق والتحرر الاقتصادي المنفلت بلا رقيب وانسحاب الدولة من أدوارها الأساسية .

2- البيروقراطية المتضخمة؛ الهرمية البناء والمركزية التحكم والمحكومة بالتخصص الضيق والرقابة العقابية والضبط والاحتواء والملاحقة وإحكام السيطرة والاحتفاظ بحق المنع والمنح فيما يتعلق بمصالح الأغلبية لكنها على النقيض تماما تيسر مصالح أنصار اقتصاد السوق المنفلت.

 

3- التكنوقراط القدامى والجدد؛ بداية نقصد بالقدامى هؤلاء الذين خرجوا من عباءة الدولة المركزية في الستينات وكانوا يقودون التحديث إلا أنهم عملوا على إعادة الطابع التقليدي وسعوا إلى التضييق من انفتاحية النظام في مجالي التعليم والتعيين وهي الانفتاحية التي سمحت للكثير منهم للترقي الوظيفي والاقتصادي والاجتماعي الذين لم يكن ليتاح لهم عن أي طريق آخر. وفاقم الأمر أنه عندما جاءت الحقبة النفطية فأننا نجدهم بالتحالف مع البيروقراطية قد قاموا بفك الارتباط بالتصنيع والانخراط في الاقتصاد الريعي داخليا وخارجيا.أما عن التكنوقراط الجدد فهم الذين خرجوا من عباءة القطاع الخاص والعمل مع هيئات المعونة الدولية مع تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي فنجدهم منفصلين عن الواقع الاجتماعي بالرغم من تمييز تعليمهم وتمكنهم من إجادة اللغات الأجنبية إلا أنهم لم ينخرطوا في البناء الرأسي للمجتمع فاهتموا بالتحديث الشكلي على حساب التغيير الجذري.

4- الاقتصاد الريعي؛ حيث تحركت العناصر الثلاثة السابقة على قاعدة اقتصاد ريعي أمسك الليبراليون الجدد بمصادره واحتكروا عائده ، وخصصوا بعض الفائض لمن يخدمهم من التكنوقراط والبيروقراطية وحرصوا على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات للأغلبية لإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.

 

5- العودة إلي أشكال التنظيم الأولية؛ كان من نتاج انسحاب الدولة من مسئوليتها الأساسية أن عاد المواطن إلى دوائر الانتماء الأضيق :الدينية والقبلية والعائلية والعشائرية.. بحثا عن الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية من التعليم والعلاج والأمان ، تم كل ذلك على حساب الجماعة الوطنية التي يتحرك فيها المواطن بصفته المواطنية وليست بسبب انتماءه الفرعي، حيث أن الجماعة الوطنية هي الوعاء الذي تصب فيه الانتماءات الفرعية. ( يشار إلى أن هناك مراجعة جدية في الولايات المتحدة الأمريكية حول أهمية الدولة و الأدوار التي يجب أن تقوم بها وفي هذا يراجع فوكوياما أحد دعاة الليبرالية الجديدة في كتابه بناء الدولة الصادر في 2004 ، على عكس ما يروجه لنا ليبراليونا الجدد في مصر).
تلك هي عناصر المنظومة التي تعوق التغيير وتمنع المواطنون من الحركة خاصة وأن الشعار الذي رفعته هذه المنظومة هو الاستقرار ، والاستقرار هو الطريق إلى التقدم ولكن السنوات أثبتت أن الاستقرار قد أدي إلي تراجع اقتصادي وركود اجتماعي وسياسي واستشراء ثقافة الخرافة والمحافظة التي تعوق الإبداع والتجدد .

إن المهمة الملحة للتواقين للتغيير وتفعيل المواطنة ، وهم كثر، أن يقوموا بتفكيك هذه المنظومة المركبة لصالح:
إعمال القانون بدون تمييز،
وتحديث الإدارة،
وتكوين تكنوقراط مبدع،
على قاعدة اقتصاد إنتاجي،
ومشاركة حقيقية وفاعلة للجسم الاجتماعي المصري في العملية الإنتاجية، في إطار دولة للجميع تقوم على المواطنة ،
وهكذا تتقدم المجتمعات ويمكن مراجعة تجارب أمريكا اللاتينية وآسيا في هذا المجال .

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern