في ظل الأحداث المتلاحقة وكثرة ما يكتب عن أحوالنا في شتى المجالات من كل الاتجاهات..ربما تفقد الكتابة تأثيرها لأن التغيير المنشود لا يتناسب مع ما هو متوقع بالإضافة إلى تصلب شرايين المسارات المؤدية للتغيير.. وهنا أتصور إن تقديم بعض الأعمال الأدبية أو الفنية المبدعة
وقراءتها قراءة مرتبطة بالواقع الذي نعيشه ربما تؤدي الغرض من فعل الكتابة أكثر من الكتابة السياسية المباشرة أو المتخصصة،وهو ما نحرص عليه من حين لآخر..في هذا السياق يأتي تقديمنا لقصة "القناع"للمبدع الكبير أنطون تشيكوف...ولكن نقدم تشيكوف أولا...
تشيكوف الأديب / الطبيب
بداية أنطون تشيكوف أحد أهم المبدعين الذين عرفهم العالم..فلقد كان كاتبا مسرحيا كبيرا،وكاتبا قصصيا عملاقا حتى أنه وصف بأنه ملك القصة القصيرة..وعلى الرغم من حياته القصيرة 1860- 1904،ونهايته المؤلمة التي أودت بحياته بسبب مرض السل..إلى أنه ترك تراثا قصصيا ومسرحيا كبيرا..ويقول المفكر الكبير لويس عوض، الذي كان يتابع من خلال رحلته السنوية – الشهيرة – إلى العواصم الأوروبية أو نيويورك،جديد المطابع،والمواسم المسرحية في كل منها،"لا أظن أني تابعت موسما مسرحيا في باريس أو لندن أو نيويورك إلا وكان تشيكوف ممثلا فيه ولو بمسرحية واحدة". وقد عرفت مصر تشيكوف من خلال طبع مسرحياته الشهيرة:"الخال فانيا"،و"بستان الكرز"،و"الشقيقات الثلاث"،..وقد تم تمثيل بعضها عل خشبة المسرح المصري. بالإضافة إلى مسرحياته فلقد ترك للإنسانية تراثا قصصيا كبيرا.
وتنبع عبقرية تشيكوف من قدرته على التعبير عن الواقع بدقة بالغة من خلال أعمال مسرحية تصور المجتمع الروسي بتعقيداته وعلاقاته وطبقاته العتيقة والمركبة.. وقصصه المبهرة التي استطاع فيها أن يلتقط الكثير من اللقطات الماهرة والمركزة لكثير مما يحدث في الحياة اليومية الروسية وكان في ذلك أقرب إلى الطبيب الماهر القادر على اكتشاف المرض ومن ثم تشخيصه،ولما لا وقد درس الطب وجمع بين مهنة الطبيب والكتابة.وتقول حصة منيف في مقدمة الكتاب الذي ترجمته عن تشيكوف(صدر عن المشروع القومي للترجمة عام 2000)،"أنه رسم لنا بقلمه وكأنه فنان يمسك بريشته،خطوط بانوراما لروسيا في فترة حالكة كانت تغمرها فيها حالة من الشعور بالمرارة والخيبة...أي بين عامي 1880 و1900،كانت بسبب إخفاق إصلاحات القيصر الكسندر الثاني في إحداث تغييرات بعيدة الأثر في حياة السواد الأعظم من الروس". ونظرا لقدرته الكبيرة على التقاط مشاهد من الواقع وتقديمها بشكل أدبي مبدع..فإن القارئ لأعماله في أي مكان في العالم – بغض النظر عن تطور هذا المكان – سوف يجد ملمحا في هذه الأعمال يمس واقعه، لذا بات أديبا عالميا...في هذا السياق نحاول رفع القناع..
القناع
تحكي قصة "القناع"(مختارات قصصية لتشيكوف ترجمة محمد القصاص)، عن حفلة تنكرية خيرية أقيمت في أحد النوادي الاجتماعية..كانت الحفلة مقامة في القاعة الكبيرة للنادي..في نفس الوقت كان هناك خمسة رجال من المهنيين و رجال الفكر – بغير أقنعة – لأنهم غير مشاركين في الحفلة، يجلسون في قاعة القراءة..وفجأة وهم منهمكون في القراءة"مزق سكون القاعة صوت أجش مكتوم منبعث من أعماق أحد القبور يقول:أعتقد أننا سنكون أهدأ بالا في هذا المكان..أقبلن!..."، "وانفرج باب القاعة ودخل منه إنسان بدين"يتنكر في "حلة حوذي بقبعته ذات ريش الطاووس ويغطي وجهه بقناع"..وكان يقول لمن معه:سنجلس هنا، "فأسقط بعض المجلات من فوق المنضدة وقال: أيها السادة المنهمكون في القراءة انصرفوا، ليس هذا وقت الصحف والسياسة..". فأجابه أحد الجالسين وهو ينظر إليه من خلال نظارته:"أرجوك شيئا من الهدوء.إن هذه قاعة قراءة،وليست مقهى". علق الشخص المتنكر بقوله"...ليس لدي وقت للكلام،..لقد قرأتم بما فيه الكفاية.كما أنكم ستضرون أعينكم، أخرجوا"...و تقدم، "وانتزع صحيفة من بين يدي السيد صاحب النظارة، وراح هذا الأخير يحمر ويصفر ويحملق في ذهول إلى من معه"..ثم صاح:"إنك تنسى نفسك...أيليق أن تشيع الفوضى! ألا تعرف مع من تتكلم.أنا زستياكوف مدير البنك..".
فما كان من الرجل المتنكر أن قال:"أنا لا أبالي مطلقا بمن تكون..فأنظر كيف أريك رأيي في صحفك."ثم التقط الصحيفة ومزقها إربا...وواصل الرجل صياحه وإصراره على أن يترك الذين يطالعون الصحف قاعة القراءة ليفعل فيها ما يريد. فصعد الدم في وجه رجل أخر من هؤلاء القراء(بليبوخين أمين الصندوق لجمعية تعمل في مجال خدمة الأيتام) وآخذه على ما يفعل. صاح الشخص المتنكر "أخرج ما دمت قد أمرتك بالخروج.. أخرجوا جميعا لأني لا أطيق أن أرى وغدا واحدا في هذه القاعة!". جاء أحد منظمي الحفل إلى القاعة وحاول أن يعمل النظام ويصطحب الرجل المتنكر إلى خارج القاعة حيث مكان الحفل. بيد أن الرجل المقنع قال له:"...أمهلك دقيقة واحدة..وإذا كنت من منظمي الحفلة، فما عليك إلا أن تطرد هؤلاء الرجال...وأنا حريصا على أن آخذ بقيمة النقود التي دفعتها...".
في أثناء هذا الحوار جاء إلى القاعة مدير المكان يصيح بصوت أجش في الرجل ذي القناع - مستفيدا بعينيه المفزعتين وشاربه المصبوغ -"بضرورة مغادرة القاعة وسط صياح جماعي تعاطف فيه كل الحضور في الحفل -الذين جاءوا على صوت الصياح – مع الرجال الذين كانوا يجلسون في القاعة للقراءة.. فأنفجر الرجل المقنع بضحكة، وقال:"لقد أخفتني!..."استدعى المدير رجال الأمن في المكان لينفذوا أمره...وحينئذ نهض المقنع واقفا بكل قامته، ومد يده إلى قناعه فمزقه.وتريث لحظة لينظر إلى كل فرد من الحاضرين ليستمتع بفعلته.و استلقى منفجرا بالضحك .وكانت النتيجة رائعة".
فلم يكن الرجل المقنع سوى بياتيجوروف رجل الصناعة المحلي صاحب الملايين...وبعد فترة صمت قصيرة،تساءل بياتيجوروف قائلا:" حسن جدا أتنصرفون الآن؟..فتسلل الرجال الذين كانوا في القاعة دون أن ينطقوا بكلمة واحدة...و راحوا يطوفون في أركان النادي كالمنبوذين البؤساء الذين يكفرون عن جريمة ارتكبوها..ووبخهم المدير لأنهم لا يعرفون إلا إثارة الشغب..ألم يكن في وسعكم ترك القاعة..إني أبغض تصرفاتكم "..أما رجل المال فخرج في الثانية صباحا إلى القاعة الكبرى وراح يغط في النوم..وجاء المدير يسأله هل أصحبك إلى البيت..ثم بدأ يساعده مشتركا معه الرجال الذين كانوا في القاعة على النهوض وحملوه إلى سيارته بكل عناية...تكفيرا عن فعلتهم..."أنه سيء المعشر،لئيم الطبع، ولكنه فضله علينا.وهذا درس كي تأخذوا دائما جانب الحذر"بهذه الكلمات على لسان المدير تنتهي القصة.
الأقنعة
في كلمات قليلة استطاع تشيكوف،أن يرسم صورة لمجتمعه في لحظة تاريخية معينة،تتضمن الكثير من الإشكاليات المتقاطعة والمتداخلة أظنها تتشابه في ملامحها وتتكرر في كثير من المجتمعات،من هذه الإشكاليات يمكن أن نرصد ما يلي:
• انتهاك الخصوصية، فبقوة المال يعطي البعض لنفسه الحق في أن ينتهك خصوصية الآخرين.
• الجميع يلبس الأقنعة‘على الرغم من أن قارئي الصحف في القاعة غير مقنعين،إلا أنهم في الحقيقة كانوا يرتدون أقنعة توحي تمسكهم بإعمال النظام وبحقوق الخصوصية إلا أنهم لم يقدروا أن يواصلوا احتجاجهم وسقطت الأقنعة الحقيقية عنهم.
• خضوع الإدارة للمال ، فسرعان ما غيرت الإدارة موقفها من إعمال النظام لإرضاء الرجل المقنع الواضح السطوة رغم القناع..
• تراجع الثقافة والسياسة أمام المال لأن فضله على الجميع..
• الإنسان قيمته بما يملك من مال..وهو ما يتناقض مع الفهم العلمي الدقيق للمواطنة الذي يعني من ضمن ما يعني المساواة بين من يملك ومن لا يملك - و ليس فقط بين المختلفين في الدين - .
هناك الكثير الذي يمكن قراءته في هذه القصة وفي غيرها من القصص..تصب كلها بالرغم من محاولتنا للبعد عن الكتابة السياسية المباشرة والمتخصصة في قلب أحوالنا السياسية والثقافية..بما تثيره من إشكاليات..