مع تطور المجتمعات وتشكل الهياكل المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية..كان للمفكرين دورهم في محاولة رصد طبيعة هذه الهياكل ونوع العلاقة بينها..وبدأ الحديث عن الدولة ومؤسساتها، والمجتمع المدني وكياناته..بيد أن أهم ما تم التوصل إليه هو أن محور كل هذا هو الفرد (أو المواطن الحقيقي أو الافتراضي) من خلال حركته وفعاليته..وفي هذا الإطار تم رصد ثلاث مجالات لحركة الفرد في المجتمع..فما هي هذه المجالات وما طبيعة العلاقة بينهم، مع التطبيق على الحالة المصرية بشكل عام وفي سياقها الشأن القبطي...
الخاص..العام..السياسي
ما أن "يفطم" الشخص من أسرته،ويبدأ التحرك خارجها،فانه ينتقل،مع آخرين،إلى ما يعرف "بالمجال الخاص" Private Sphere، حيث العلاقات الشخصية والصداقات والتواصل بين العائلات في المنتديات،وفي هذا المجال عرفت حقوق الخصوصية والملكية والحرية الشخصية. ومع الوقت وتبلور المصالح الاجتماعية والاقتصادية بشكل أكثر تعقيدا، يتشكل ما يعرف باسم "المجال العام" Public Sphere، حيث نجد المنظمات الغير حكومية والجمعيات والنقابات والأحزاب والروابط العمالية و الفلاحية والحركات الاجتماعية والكيانات الدينية وجماعات المصالح والكيانات الاقتصادية،وكلها تتشكل للدفاع عن المصالح الآخذة في التبلور،وحماية حقوق الفئات النوعية المختلفة والمطالبة بها،والضغط من أجل استصدار أو تغيير القوانين،وهنا تأخذ حركة المواطن طابعا أكثر حيوية وفعالية فيتجاوز ماهو خاص إلى ماهو عام ومشترك مع آخرين قد يكونوا مختلفين عنه،كما أن هذا المجال يوفر حقوق التنظيم والتظاهر والإشهار والتعبير بأشكالها. وأخيرا نأتي إلى المجال المتعلق "بالدولة ومؤسساتها"State Sphereوتضم السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية والجهاز البيروقراطي وقوى الأمن حيث تمارس الدولة في هذا المجال كل ما يتعلق بمسئوليات الدولة من ضبط للنظام العام وتحقيق الأمن والدفاع عن الوطن، وإعمال القانون،والإشراف على الأسواق وضبطها،وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية،وإعادة توزيع الموارد والثروة،وتأمين المجتمع ضد البطالة،وتوفير الضمانات الاجتماعية والصحية والمعاشات العادلة وحماية الفقراء و المهمشين وتمكينهم،ووضع السياسات العامة،وصيانة حقوق الملكية.
في الظروف الطبيعية تكون هذه المجالات في حالة توازن وتفاعل فيما بينها، فالفرد(المواطن الحقيقي أو الافتراضي) يتحرك بين هذه المجالات بكل حرية وفاعلية..فهو حر ويمارس حريته الشخصية، بما لا يخل بالقوانين المتوافق عليها بين الجميع وبما لا يمس حرية الآخرين، في إطار المجال الخاص..وهو أيضا فاعل مع الآخرين،بغض النظر عن الاختلاف الديني أو الجنسي أو اللوني،ينتظمون في الروابط والجمعيات والنقابات للدفاع عن الحقوق والمصالح ويستثمرون أموالهم في إطار اقتصاد إنتاجي بما يحقق التطور، في إطار المجال العام..وأخيرا تأتي علاقة الفرد بالدولة حيث يحكمها منطق الحقوق والواجبات،ويربط بين هذه المجالات الثلاثة عقدا اجتماعيا يضمن الاندماج بين الجميع،فلا يجور الخاص على العام،ولا تهيمن الدولة على حركة المواطنين في المجالين العام والخاص. وهكذا يكون الفرد أقرب للسباح الذي يسبح في ثلاثة حمامات سباحة، متساوية، تبدو منفصلة، ولكن هناك ما يصل بين كل منها، فينتقل السباح بكل انسجام من واحد لآخر،في ضوء قواعد منظمة لعملية السباحة لا تفرق بين أحد،تضمن له سباحة آمنة وناجحة.
وهنا نسأل ماهي الحالة الراهنة لهذه المجالات في واقعنا وطبيعة العلاقة بينهم،وتأثير هذه الحالة على الشأن القبطي – تحديدا-،وما ترتب على ذلك من مواقف على أرض الواقع من قبل كل الأطراف.
اختزال وتجاور لا اندماج
الراصد للواقع يمكنه أن يلحظ بسهولة ويسر..أن المجال العام قد تجمدت أغلب كياناته القائمة، كما أن الفاعل منها فانه يخضع للوائح وآليات مقيدة، بالإضافة لصعوبة تكوين كيانات جديدة..وقد ترتب على ذلك ما يلي:
• أقتصر الدور النشط للأفراد في المجال العام على النشاط الاقتصادي دون غيره..فهو النشاط الذي لا قيد عليه ومتاح للجميع،الأمر الذي يجعلنا نقول أن المجال العام قد تم استبداله بما يمكن أن نطلق عليه " السوق" Market Sphere ،فمن حق أي أحد أن يتاجر ويستثمر من دون أن يترتب على ذلك حقوق مدنية من تكوين روابط دفاعية أو اتحادات نوعية..الخ.كذلك نجد الجمعيات والنقابات وقد بدأت تمارس أدوارا ذات طابع خيري واجتماعي خدمي،تعويضا عن تخلي الدولة عن مهامها الخدمية،وتفريغا للدورين الدفاعي والحمائي لهذه الكيانات. وهنا تداخل العام مع الخاص.
• إضفاء المقدس على المجال العام وتقسيمه رأسيا على أساس ديني، مما يعني اختزال طبيعته المتنوعة إلى الديني فقط. وعليه فان كل ماهو جهد مبذول لاكتساب الحقوق لابد وأن يمر من خلال الديني،فباتت التعبئة الدينية تحل محل السياسي والمدني. ولعراقة وتاريخية الكيانات الدينية نجدها وقد أقامت شبكة أمان اجتماعي لتلبية حاجات الناس المتزايدة مع عدم قدرة الدولة على ذلك.
• ولأن الطبيعة الاقتصادية السائدة ذات طابع ريعي ما يعني عدم الحاجة إلى الابتكار الذي يلازم الاقتصاد الإنتاجي..فإن الأمر الواقع يبقى على ماهو عليه دونما حاجة إلى تغيير،ومن ثم يصبح المجال العام غير جاذب لأي أحد فتغيب المشاركة السياسية والمدنية..وتقتصر الفاعلية في حدود مصالح القلة الثروية.
• انسحاب الدولة من معظم أدوارها وعدم تيسيرها لإعادة العلاقة المتوازنة بين مجالات حركة الأفراد واكتفاءها بالدور السلطوي دون غيره..
كل ذلك قد ساهم في أن يقترب الوضع الحالي من النموذج العثماني الذي يتكون من سلطة ونشاط اقتصادي وبشر ينتظمون في أشكال أولية للتنظيم متجاورة مثل: الطوائف والعائلات الريفية والعشائر..لأن المجال العام الذي من المفترض أن يكون مجالا جامعا للمواطنين لم يعد موجودا..وباتت الدولة تقبل بالأخذ بالقوانين والآليات العرفية بالمنطق العثماني في الاستجابة لمطالب كل طائفة،والأفراد أنفسهم قبلوا بذلك.
الشأن القبطي في هذا السياق
في ضوء ما سبق يمكن أن يكون الشأن القبطي خير معبر عن الحالة الراهنة..فبسبب غياب آليات لدمج المواطنين في إطار المجال العام، وإضفاء المقدس عليه (تديينه)،وعم وجود قنوات سياسية ومدنية قادرة على استيعاب المواطنين بصفتهم المواطنية..فإننا نجد الأقباط ولم يبق لديهم إلا الانكفاء أو تكريس هوية مضادة سقفها مطالبي سواء بالسلوك كجماعة دينية أو أقلوية،ويدعم ذلك كل من الدولة في تعاطيها مع هذا الملف أو الطرف الديني المضاد،على الرغم أن الجسم القبطي في الواقع ليس متماثل العناصر،فقطعا أقباط الشرائح الاجتماعية العليا ليس هم أقباط الشرائح الوسطى والدنيا.. ونجد هذه الحالة وقد أفرزت لنا نشطاء يتحدثون باسم الأقباط الكتلة،وتجد مطالبهم وقد صبت في اتجاه عزلة آمنة لجماعة دينية أو أقلوية،لان المجال الحيوي الجامع القادر على تحقيق الاندماج غير متوفر. فالمجال العام الذي كان منوطا به من خلال حركة المصريين، بغض النظر عن الانتماء الديني، "معا" أن يحصلوا من خلاله على الحريات المدنية والدينية التي هي حق للجميع، غير موجود.
في نفس الوقت نجد الحضور قد بات مقيدا في الواقع،سواء بطرح فكرة أن الولاية العامة لها سقف ومشروطة،بالرغم من الخبرة التاريخية والاجتهادات الفقهية المعتبرة التي تجاوزت ذلك بكثير.على الجانب الآخر نجد الحضور الفعلي مقيد سواء بوعي أو من غير وعي عن مواقع ومراتب معينة ،الأمر الذي يدفع إلى الحديث عن الكوتة والتمثيل النسبي،ولو أن المجال العام بصحة جيدة ومن ثم الاندماج ما كان أحد تحدث عن ذلك حيث الكفاءة وحدها هي المعيار بغض النظر عن الانتماء الديني.
إذن نحن أمام جماعات مطالبية تفاوض السلطة للحصول على مطالبها ، في غياب لكيانات المجال العام بسبب ما يمكن أن نطلق عليه الانسداد السياسي،وعليه تحول المجال العام إلى مجال لحركة المقدس أو الديني فقط مما ينذر باستمرار التوتر لأن حركة المجال العام – تجاوزا ستكون بين مقدسات-.
يبدو لي أن المطلوب هو أن يعمل الجميع على مواجهة الانسداد السياسي وتفعيل المجال العام ،وحصار كل ما هو جزئي على حساب الكلي الجامع..وفق عقد اجتماعي غير مقيد..