تحليل كلام المسئولين

متابعة التصريحات الشفاهية التي يدلي بها المسئولين في برامج التليفزيون، من الأمور التي تشدني جدا.. حيث أعتبرها فرصة للتدريب الذهني على تحليل مضمون ما يقول هؤلاء المسئولين..والوقوف على الكيفية التي تدار بها أحوال المصريين...كيف؟

الفكرة ونقيضها

في أمسية واحدة استضاف المذيع على الهاتف أثنين من المسئولين في فقرتين متتاليتين للحديث

عن واقعتين حدثا في إطار مسئوليتهما،نعلق على واحدة منهما تتعلق بإحدى الحوادث التوتر الديني،دعك من العبارات التي تتلى بشكل تلقائي متكرر مثل:الحمد لله أننا نسيطر على الموقف،وأننا نؤمن الأوضاع،وأن كل شيء عاد لأصله وطبيعته..كذلك الحديث بلغة الجمع حيث لا تعرف بدقة على من يعود الحديث أم أن اللغة هنا للتفخيم..دعك من هذا كله فأخطر ما تعكسه هذه الحوارات هو كيف يعبر المسئول عن الفكرة ونقيضها..فبالرغم من أن المسئول يمثل الدولة بما ترمز من دلالات حديثة مثل أنها دولة القانون،وبالفعل يتحدث عن قبض على جناة وإنهم قيد التحقيق إلا أنه ينهي حديثه بقدرة المحافظة على تشكيل جلسة عرفية حيث اتخذت عدة قرارات ويقوم بتلاوة هذه القرارات باعتبارها إنجاز غير مسبوق ويؤكد على أهمية ما حدث وأن هذه القرارات ستكون ملزمة لأنها من صدرت من "كبارات القرية"التي وقع فيها الحادث.
على الرغم من راحتي بانتهاء الحادث،إلا أن خطورة ما عرض هو أن المسئول لا يدرك أنه لايستقيم ما تم الوصول إليه من اللجوء إلى نمط من الآليات يرجع إلى زمن ما قبل الدولة الحديثة التي يقوم هو بتمثيلها..أي اللجوء لشرعية تناقض شرعية وجوده،والإشكالية هي في تكرار استخدام هذه الآلية والتي باتت طبيعية لحل المشاكل على أرض الواقع..ويستمر حديث المسئول في سياقين متناقضين، سياق يخص المحافظة ودورها في حل إشكاليات الواقع وسياق يبرر استدعاء مفردات وممارسات لا تمت بصلة للدولة الحديثة.

في هذا الإطار أيضا نجد أحد المسئولين يتحدث في لقاء تليفزيوني عن ضرورة القضاء على الفقر..ويؤكد عن تأكيد الدولة على ضرورة مراعاة البعد الاجتماعي في عملية التنمية ..شيء طيب ولاشك..تكمن الإشكالية عندما نجده يتحدث عن الفقر بمنطق ليبرالية السوق،ويقدم حلولا لا ترقى إلى الشعار المعلن ألا وهو" القضاء على الفقر"،حيث يتم تقديم حلول في مجملها تقع تحت عنوان ما يعرف في هذا المجال بالحلول الخيرية للفقراء، قد تسهم في حل بعض الحالات الفردية إلا أنها لن تسهم في حل المشكلة على الصعيد القومي. فالذي يريد القضاء على الفقر لابد و أن يقوم بتحليل السياسات والآليات الاقتصادية والاجتماعية التي تولد الفقر.بيد أن خطاب المسئول في هذا السياق يميل إلى التعاطي مع الفقر كما لو كان قدرا وأن الناس عليها أن تنفض الكسل من عليها وألا تستسلم للفقر..الإشكالية أن هذا الخطاب/الكلام لن يؤدي إلا إلى نقيض ما هو مطلوب.. فبينما يتركز الخطاب حول أهمية القضاء على الفقر وعدم الاستسلام له- كأنه ميكروب- يغيب خطاب التحليل العلمي لأسباب الفقر الذي هو حادث بالفعل..وعليه فالنتيجة غالبا سوف تكون مزيد من الفقر.

الفكرة المختزلة

هناك نوع من المسئولين نجده يستخدم كلاما يتضمن مفردات حديثة فتبدو لغته متطورة..فيشدك الحديث لسماعه وبعد وقت ليس طويلا تجده حديثا يعكس منطقا تقليديا ونمطيا..فلا تسعفه المفردات الحديثة حيث أن استخدامها في غير سياق من جهة، واستخدامها بغير إدراك دقيق لمعناها من جهة أخرى، يفقد الحديث معناه ويحوله إلى لغو...فلا يشفع استخدامه لمفردات من عينة إعادة الهيكلة والمؤسسية أو المواطنة أو المجتمع المدني ودوره في التنمية..
فالمصطلح أي مصطلح له تاريخ نشأة وسياق ولد فيه وتطور يمر به في ضوء الواقع الاجتماعي..وهاهو أحد المسئولين يستخدم كلمة المواطنة في لقاء عام ينقله الإعلام، وكيف يتم مراعاة تحققها على أرض الواقع..وما أن قال ذلك حتى التفت باهتمام شديد، بحكم الاهتمام، فوجدته حاصرا المواطنة في العلاقة بين المسلمين والأقباط فقط ولا مجال لتفهم أن الأمر أوسع من ذلك بكثير..ويتضح لنا مع تتابع الحديث أن المواطنة في معناها الأقصى هو توفير العلاقات الطيبة والترضية للطرفين والاستجابة لمطالب الطرفين بعدل..ربما يكون ذلك مستوى من مستويات المواطنة لكن قطعا المواطنة علميا أعقد من ذلك بكثير..حيث تحمل المشاركة ومنظومة حقوق ذات أبعاد متعددة لكل المصريين ولا يمكن ممارستها بمعزل عن البناء الاجتماعي وبنية الدولة القائمة...
وتجد مسئول آخر يحدثك عن التحديث المؤسسي..فيأخذك التعبير وتنتبه له فتجد هذا التحديث لا يخرج عن أن يكون تحديثا شكليا يتركز في الأثاث ودهان المبنى ولا يمتد إلى الذهنية الحاكمة للفكرة المؤسسية من حيث العلاقات الإدارية حيث تظل هرمية بالرغم من وجود مفاهيم حديثة تتحدث عن الإدارة بالمشاركة أو الإدارة الشبكية..الخ،وتأتي المفارقة عندما تكون نتيجة الحديث عن التجديد المؤسسي هو مزيد من العبء المؤسسي ومزيد من الهرمية التي تزيد المسافة بين القمة والقاعدة..
ولا يمنع أن يشمل الحديث كلاما عن دور المجتمع المدني في التنمية..ولا تكاد تعرف بدقة أي مجتمع مدني يقصد المتكلم.. فتجد نظرة ضيقة للمجتمع المدني تحصره في الجمعيات التي تعين المسئولين في مهامهم..لا أكثر ولا أقل..ولا يتصور قط أنه قد يعني الحركات المدنية أو الاجتماعية..وان المفهوم نفسه تطور في عدة مراحل منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا حيث الحركات المناهضة للعولمة ولسياسات السوق...

وبعد كانت هذه نماذج من بعض كلام المسئولين قصدنا بها الاقتراب من مضمون ما يصرحون به..والتأكيد على أن ما نتفوه به هو انعكاس لوعينا.و أن الكلام هو تعبير عن فهمنا للأفكار المختلفة ومن ثم الاختيارات التي سوف تترتب على ذلك عمليا والتي غالبا تعيد إنتاج الواقع مرة أخرى دون تغيير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:

"... فارس النور؛يفكر مليا قبل مباشرة الفعل.يعيد النظر في تريبه كما في مسئولياته وواجباته كمعلم.ويحاول الاحتفاظ بهدوئه محللا كل خطوة كما لو أنها الأهمية الأسمى.
وحالما يتخذ القرار فإن الفارس عموما يتابع:فلا شكوك لديه حول العمل المختار،ولا هو بالمغير اتجاهه إذا تحولت الظروف بشكل مختلف عما قد تخيلها.
فإن يكن قراره صائبا فسيكسب المعركة، حتى لو طالت أكثر من المتوقع. وإن يكن قراره خاطئا فسيهزم،وسيكون عليه أن يعيد الكرة وإنما بحكمة أكبر هذه المرة.
لكن فارس النور، إن بدأ ثابر حتى النهاية..."
من" فارس النور" للأديب العالمي
باولو كويلهو


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern