نعم للتعددية..لا للأحادية

أدت كثرة تكرار أحداث التوتر الديني بأشكاله المتعددة، وظهور خطاب ديني سجالي و متشدد من خلال فضائيات ومواقع الكترونية تروج لأفكار تصعيدية تمثل انحرافا لروح الاعتدال المصرية.. إلى تبلور خطاب غير معني بالتعايش ولا يعطي بالتالي أهمية للاندماج الوطني بين المصريين.. الأمر الذي سمح بحدوث ما أسميته مرة "بالتوتر الناعم"، الذي يعد أخطر من التوتر الخشن المادي المباشر، لأنه غير مرئي ويتعامل مع الأفكار ويؤثر في العقل والوجدان ويصنع حواجز وسدود نفسية بين أبناء الوطن الواحد بهدوء شديد.. انه فكر أحادي لا يعرف التعددية.. فكر نقيض للخبرة المصرية..
الخبرة المصرية هي التعددية النقية..إنها المركب الحضاري المتعدد العناصر، خبرة تتميز بالأساس في قدرتها على استيعاب التعدد من دون هيمنة مكون علي باقي المكونات.إن عبقرية مصر الحقيقية في أنها مركب حضاري لا يمكن اختزال عناصره لحساب عنصر واحد، فعندئذ تصبح مصر مسخا لآخرين..لقد حذرنا على صفحات الوفد، مرة، من أن مصر التعددية في خطر...لماذا؟
وبالرغم من أن المواطنة تعني أن يتحرك الناس معا في إطار المجال الحيوي الجامع لمواجهة المشاكل معا.. الظلم.. الفقر.. البطالة..الخ..إلا أن المجال الحيوي الجامع لأبناء الوطن الواحد لم يعد كذلك، فكل طرف بدأ يعود لأشكال التنظيم الأولية باحثا عن حل المشاكل بمعزل عن الطرف الآخر، وبخاصة في الأوساط الدنيا من المجتمع.. وبسبب عزلة كل منا عن الآخر بدأ كل طرف يتحرك في مجاله الخاص بعيدا عن المجال الجامع..وبتأثير الأفكار الأحادية تدعمت أكثر العزلة..وتمترس كل طرف في مجاله الخاص محاربا الطرف الآخر بهدف نفيه..بدلا من أن يستقوي كل طرف بالطرف الآخر في مواجهة مشاكل مركبة:الفقر،والجهل،والمرض،وأطفال الشوارع،...، التي لا تفرق على أرض الواقع بين طرف وآخر..
لقد تولد لدي إحساس بان مصر ذات الطابع التعددي تختطف لصالح الأحادية.. وكان السؤال هل من معنى لمصر بدون التعددية..هل يمكن أن تستمر مصر تعاني التوتر الديني لأربعة عقود، ونصل إلى هذه الدرجة الحادة من الاستقطاب من دون حل.. في هذا السياق تقدمت بفكرة " اللجنة 46".. والتي لاقت قبولا كبيرا سعدت به..لمسته من خلال عشرات الاتصالات الهاتفية و الرسائل الإلكترونية ورسائل المحمول(من شخصيات عديدة لن يسمح المقام بذكر الأسماء) ،بالإضافة إلى الاهتمام الإعلامي..الأمر الذي يعني ما يلي:
• أن هناك انحياز أكيد ورغبة أصيلة مخلصة لدى العديد على التمسك بالتعددية وأنه لن يتم التفريط فيها لصالح الأحادية.
• أن هناك حاجة إلى وجود آلية لحل الإشكاليات العالقة منذ تقرير العطيفي منذ 35 سنة.

إن القبول الذي لاقته الفكرة، يجعلني أتمنى أن تجد لها طريقا للتنفيذ..وألا تضيع في سياق صراع بين مؤيدين ومعارضين..هذا لا يعني ألا تناقش وأن يتم تطويرها..ولكن كما قلت في المقال الذي نشرته جريدة الوفد الأسبوع الماضي، وتكرمت بنشره مرة أخرى أول أمس، يجب أن يكون هناك سقف زمني للنقاش، وبهدف الوصول إلى آلية يتم التوافق عليها..والتي وضح أنه يوجد احتياج إلى تبلورها..وأذكر إني قلت أن اللجنة(التي تتشكل من رجال قانون،رجال دين إسلامي ومسيحي،وشخصيات عامة) ذات طابع سيادي وتمثيلي يكسبها صلاحيات تمكنها من اتخاذ الإجراءات اللازمة...وهنا أرجو أن يكون مصدر الحديث اللجنة و هدفها واختصاصاتها وتشكيلها، هو ما نشرته جريدة الوفد، خاصة وأن بعض الصحفيين نشروا كلاما مبتسرا عن الفكرة...
وأختم بما ختمت الأسبوع الماضي، لقد تأخرنا كثيرا في إنهاء حالة التوتر الديني، بيد أن تصاعد موضوع التحول الديني بهذا الشكل غير المسبوق...يدق جرس إنذار يحتاج منا إلى سرعة التحرك وضرورة عمل كل ما يلزم ليس بمنطق إطفاء الحرائق كما تعودنا ولكن بالحلول الجذرية التي تطرح الكراهية والخوف بين المصريين جانبا، وتجمع بينهم لمواجهة المشاكل التي لا تميز بين أحد أو آخر..وتضمن للأجيال الجديدة التقدم نحو المستقبل وهم مندمجون معا بغير تمييز على قاعدة المواطنة..أرجو أن يحظى اقتراح تشكيل اللجنة 46 بالقبول والتوافق العام وأن نتحاور حوله مع وضع سقف زمني لهذا الحوار..وليتعاون الجميع للدفع بالأخذ به.

خلاصة القول..فليتعاون الجميع من أجل مصر التعددية...

يقول أدونيس في هذا المقام:

تاريخ المجتمع هو تاريخ الجهر بأفكاره،وتاريخ الجهر بتعدديته.
دون هذا الجهر،لا يكون المجتمع إلا ركام أشياء- نباتا أو جمادا أو هياكل لها شكل إنسان.
لا تاريخ لمجتمع صامت، أو لمجتمع أحادي النظر و الفكر.
المعنى مرتبط بالفكر المتعدد –جهرا.
الفكر المتعدد – جهرا هو ما يؤسس لتاريخ المعنى.
المجتمع الذي لا يفكر متعددا، وجهرا، لا يمكن أن يخلق معنى إنسانيا عظيما.أنه يعيش خارج المعنى.
بالفكر المتعدد – جهرا،يصير للإنسان تاريخ.
الأحادية صحراء.
زوال التعددية في المجتمع زوال لتاريخه.المجتمع نفسه يفقد اجتماعيته،ويتحول إلى
قطيع.
الوجود هو أن يقال بأفكار وطرائق متعددة.ذلك أن الوجود، تحديدا، متعدد.
لا أحادية إلا أحادية الخالق
الآخر الحر شرط لوجودي الحر.

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern