منذ أعوام،أصبحت قضية "التحول الديني" مادة شبه أساسية في الإعلام بتقنياته المتعددة،وإذا كان للإعلام فائدة من حيث طرح قضايا حقيقية تترتب على التحول الديني(من وإلى الإسلام والمسيحية)،كان مسكوت عنها،بيد أن طرح المسألة للنقاش العام بين الناس عبر الإعلام قد حولته إلى نوع من السجال الذي يدفع نحو المزيد من الاحتقان،ويحول دون مناقشة القضايا الحقيقية،في ظل توتر ديني ممتد عبر أربعة عقود.
الثقافة الاجتماعية المانعة
ويزيد من درجة الاحتقان هو وجود ما أسميه "ثقافة اجتماعية مانعة" للحرية الدينية، تفاقم من الإشكاليات الخاصة بموضوع التحول الديني،وهو ما ظهر بشكل واضح في ردود الفعل الشعبية الحادة حول ما تم عرضه من حالات،بل وربما أيضا طالت الحدة بعض من رجال الدين مما جعلهم ينحازون إلى الآراء المتشددة فيما يتعلق بالحرية الدينية،على الرغم من أن الفقه المصري قد وصل إلى اجتهادات راقية في هذا المقام على يد الشيخ محمود شلتوت في كتابه الإسلام شريعة وعقيدة، والدكتور عبد المتعال الصعيدي في كتابه الحرية الدينية في الإسلام،وأخيرا الدكتور عبد المعطي بيومي،والدكتورة آمنة نصير،تتناسب والسياق المصري. ولكن كما قلت فان التوتر الممتد عبر عقود لأسباب شرحناها مرارا وتكرارا نميل في دراستنا ومنهجنا إلى أنها تعود للسياق المجتمعي العام، قد ساهمت في أن يسود المزاج المتشدد من جهة، وأن يهيمن السجال والنزال من جهة ثانية،وأن تحدث الكثير من الحالات الغامضة من اختفاء لفتيات وسيدات بدت وكأن هناك مخططا ضد المسيحيين من جهة ثالثة يؤججها التباطؤ في تقديم الحلول.
حدث ما سبق في إطار ظرف دولي يتبنى التدخل الدولي،حيث صدر القانون الأمريكي للحرية الدينية والذي بموجب المادة 107 قد أتاح لمجموعات وافدة أن تبشر،ومن المعروف أن الأقباط هم أول من أضيروا من التبشير تاريخيا،ولم يزلوا يتعرضون له من قبل مجموعات تدخل مصر تحت مظلة هذا القانون (وهو ما شرحناه تفصيلا في كتابنا الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط وحذرنا من تداعياته) كما أتاح التناحر المذهبي الإسلامي، وهو ما حذرنا منه مبكرا في أكثر من مناسبة...إننا في أشد الاحتياج إلى آلية تعمل على "تليين" الثقافة الاجتماعية المانعة وامتصاص التوتر بنوعيه الخشن والناعم واستعادة روح الاندماج الوطني.
لجنة ال46:هدفها..اختصاصها..تشكيلها
ويبدو لي أن هناك ضرورة قصوى للتعامل مع قضية التحول الديني بطريقة حاسمة وماهرة في آن واحد. وأظن أنه لن يختلف معي أحد قلق على هذا الوطن وما أصابه من توتر.ومن ثم أقترح أن تشكل لجنة وطنية تعرف باسم "لجنة ال46"؛نسبة للمادة 46 في الدستور التي تنص على الآتي:"تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية".
*والهدف من أن يكون هذا أسمها هو أن تكون المرجعية العليا لهذه اللجنة هو المادة الدستورية رقم 46 أي مرجعية الدستور المصري ولا مرجعية سواه،وأن تختص بموضوعي حرية العقيدة وإقامة الشعائر .والتأكيد على الاحترام المتبادل بين أبناء الدينين و مواجهة أي جهد منظم يعمل على اختطاف واقتناص وتحويل أحد من دينه،وجعل المواطنة هي الإطار الجامع بين المصريين.
* وتكون مهمة اللجنة هو التعاطي مع حالات التحول الديني بحيادية وموضوعية أخذا في الاعتبار الإشكاليات التي تترتب عليها من علاقات بين الأولاد والآباء...الخ.واقتراح القوانين المناسبة في ضوء المادة الدستورية. وتوفير الحلول المتنوعة الملزمة للحالات المختلفة،والحيلولة دون جعل موضوع التحول الديني مادة سجالية بين الناس العاديين،كما يمكن أن تعنى اللجنة بما يلي:
• المراجعة المستمرة للوقائع والملابسات الخاصة بالتحول الديني والانتهاكات الخاصة بالحرية الدينية.
• وضع التوصيات الملزمة ومتابعتها مع الجهات المعنية.
• الاطلاع على الأدبيات الدينية والعالمية الخاصة بموضوع الحرية الدينية.
• التشاور مع المؤسسات الدينية والجهات التي تضطلع بهذا الملف، واللجان الوافدة من هنا وهناك.
• إجراء زيارات ميدانية.
• حق التحقيق في الوقائع، والاستجواب...وكشف ما إذا كان وراء عملية التحول الديني أية أغراض لا تتفق مع صحيح الدين وهدفها الإضرار بملف العلاقات المسيحية الإسلامية .
• إصدار تقرير سنوي، وبيانات إعلامية دورية.
• حق مساءلة من يلجأ للسجال الديني.
• وضع سياسات عامة قابلة للتنفيذ فيما يتعلق بضمان الحرية الدينية في مجالات التعليم، والثقافة، والإعلام.
* وتضم هذه اللجنة عناصر تمثل القضاء، والمؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية، والبرلمان، والجهات الإدارية المعنية، والإعلام، بالإضافة لبعض الشخصيات العامة، على ألا تزيد عن 15 عضوا.
* يشارك رئيس الدولة والبرلمان في تشكيل "لجنة إل 46"،(وهنا أستعير الكيفية التي يتم بها تشكيل لجنة الحرية الدينية الأمريكية بالرغم من موقفنا من القانون الأمريكي لكن لا مانع من الاستفادة من الفكرة نفسها)،على ألا يكونوا من العاملين من الحكومة وبالتالي لا يتقاضون رواتب كموظفين منها. ويتم الاختيار من شخصيات مشهود لها بالمعرفة والخبرة والنزاهة والوطنية، شخصيات محل إجماع وطني، معنية بقضايا المواطنة و الاندماج الوطني والحرية الدينية و حقوق الإنسان، وعلى دراية تامة بالخبرة التاريخية المصرية. وتكتسب اللجنة بآلية تشكيلها المشترك من قبل الجهة التشريعية ورئيس الدولة صفة مركبة: سيادية وتمثيلية .
نحو توافق عام حول لجنة ال 46
لقد تأخرنا كثيرا في إنهاء حالة التوتر الديني، بيد أن تصاعد موضوع التحول الديني بهذا الشكل غير المسبوق..يدق جرس إنذار يحتاج منا إلى سرعة التحرك وضرورة عمل كل ما يلزم ليس بمنطق إطفاء الحرائق كما تعودنا ولكن بالحلول الجذرية التي تطرح الكراهية والخوف بين المصريين جانبا، وتجمع بينهم لمواجهة المشاكل التي لا تميز بين أحد أو آخر..وتضمن للأجيال الجديدة التقدم نحو المستقبل وهم مندمجون معا بغير تمييز على قاعدة المواطنة..أرجو أن يحظى اقتراح تشكيل لجنة ال 46 بالقبول والتوافق العام وأن نتحاور حوله مع وضع سقف زمني لهذا الحوار..وليتعاون الجميع للدفع بالأخذ به.