منذ ثلاثة أسابيع، أدلى اللواء فؤاد نصار الذي شغل مناصب سيادية هامة ومناصب تنفيذية متعددة ، بحديث مطول، تطرق فيه للكثير من الملفات والقضايا..بيد أن أخطر ما أثاره هو قوله الحاسم – والمؤلم في نفس الوقت- أن "الرجل الوطني لم يعد موجودا". توقفت كثيرا أمام هذه العبارة وأخذت أتأملها، فعبارة من هذا النوع عندما تأتي من شخصية بوزن اللواء فؤاد نصار(بغض النظر عن ربطه صفة الوطنية بالرجل، أتصور أن رأيه ينسحب على الجميع الذكور والإناث)، لابد وأن تحظى بالاهتمام والنقاش من كل القوى الوطنية.
(أ) أسئلة أولية:
يثير هذا الرأي العديد من الأسئلة الأساسية من عينة :
هل الوطنية قابلة للغياب؟ وإذا كان هذا صحيحا ما الأسباب التي تجعلها تغيب؟ وهل يمكن أن يستقيم أن تستمر دولة- أي دولة- وقد غاب عنها الوطنيون؟ وكيف يمكن أن نفعل الوطنية المصرية مجددا؟
إن الوطنية في أبسط تعريف لها تعكس علاقة مركبة بين المرء والجماعة الإنسانية التي يعيش بينها والأرض التي تضم الجميع. لذا نجد الوطنية Patriotism في جذريها اللاتيني واليوناني تعكس فكرة الرابطة الوثيقة والعضوية بين المرء وكل من النطاق الجغرافي الذي نشأ فيه والجماعة التي ينتمي إليها،هذه الرابطة التي تزداد وثوقا أو تنحل بمقدار ما يكون المرء متفاعلا ومتحركا ومناضلا أو لا، أي يمارس مواطنته أو لا يمارس...كيف؟
(ب) إعاقة المواطنة والوطنية:
يمكن رصد عاملان قد شكلا إعاقة حقيقية – في تقديري - لممارسة المواطنة وتراجع الوطنية المصرية:
(1) منظومة إعاقة المواطنة/ الوطنية وتشمل عدة عناصر وذلك كما يلي:
* الليبراليون الجدد؛ الذين يؤمنون باقتصاد السوق والتحرر الاقتصادي المنفلت بلا رقيب وانسحاب الدولة من أدوارها الأساسية،أو بأولوية السوق على الوطن.
*البيروقراطية المتضخمة؛ الهرمية البناء والمركزية التحكم والمحكومة بالتخصص الضيق والرقابة العقابية والضبط والاحتواء والملاحقة وإحكام السيطرة والاحتفاظ بحق المنع والمنح فيما يتعلق بمصالح الأغلبية لكنها على النقيض تماما تيسر مصالح أنصار اقتصاد السوق المنفلت.
* التكنوقراط القدامى والجدد؛ القدامى الذين خرجوا من عباءة الدولة المركزية في الستينات وقادوا التحديث إلا أنهم عملوا على إعادة الطابع التقليدي وسعوا إلى بالتضييق على آخرين أ يستفيدوا بما استفادوا منه. وعندما جاءت الحقبة النفطية تحالفوا مع البيروقراطية و قاموا بفك الارتباط بالتصنيع والانخراط في الاقتصاد الريعي داخليا وخارجيا.أما التكنوقراط الجدد فهم الذين عملوا مع الشركات العالمية و القطاع الخاص و هيئات المعونة الدولية وتبنوا سياسات التحرر الاقتصادي ولكنهم انفصلوا عن الواقع الاجتماعي بالرغم من تميز تعليمهم وتمكنهم من إجادة اللغات الأجنبية إلا أنهم لم ينخرطوا في البناء الرأسي للمجتمع فاهتموا بالتحديث الشكلي على حساب التغيير الجذري.
* الاقتصاد الريعي؛ حيث تحركت العناصر الثلاثة السابقة على قاعدة اقتصاد ريعي أمسك الليبراليون الجدد بمصادره واحتكروا عائده ، وخصصوا بعض الفائض لمن يخدمهم من التكنوقراط والبيروقراطية و توفير الحد الأدنى من الاحتياجات للأغلبية لإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.
*العودة إلي أشكال التنظيم الأولية؛ كان من نتاج انسحاب الدولة من مسئولياتها الأساسية أن عاد المواطن إلى دوائر الانتماء الأولية:الدينية والقبلية والعائلية والعشائرية.. بحثا عن الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية من التعليم والعلاج.
(2) تأثير ظاهرة العولمة، تلك" العملية الاجتماعية التي تتراجع أمامها العوائق الجغرافية وأية ترتيبات سياسية أو اجتماعية ومن ثم السيادة الوطنية"،وذلك بفعل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات والمعاملات المالية التي تديرها الشركات عابرة القوميات والمتعددة الجنسيات والتي باتت أكثر قوة من الدول والمؤسسات السياسية الدولية،وفي ضوء ذلك تطورت ثقافة عولمية يتفاعل معها الناس من كل صوب واتجاه،بغض النظر عن انتماءاتهم القومية،الأمر الذي جعلهم يضعون اختياراتهم الفردية قبل الانتماء الوطني.في هذا السياق طرحنا في كتابنا المواطنة والتغيير،ما أسميناه الصراع بين الدولة الوطنية Polis التي تعبر عن مرحلة الدولة القومية،وبين العولمة بقيمها الكونية Cosmos..التي هي تعبير عن المرحلة ما بعد القومية. لقد نتج عن هذا الصراع وبسبب الاستبداد الداخلي والتباطؤ في تقديم الحلول، والذي واكبه تنامي للحركات الحقوقية الكونية متعددة الأشكال، إشكاليتان هما:
* إشكالية التمسك بحقوق الإنسان الكوني في مواجهة غياب حقوق المواطن القومي،أو بلغة أخرى لجوء المواطن المحلي لمن يحميه خارجيا في مواجهة غياب العدل في الداخل.
* إشكالية بزوغ ما يمكن تسميته الإنسان المدني العالمي في مواجهة الإنسان السيادي الوطني،أي أن المرء بات مع تأخر حصوله على حقوقه في الداخل كمواطن يريد أن يحظى بحقوقه كإنسان عضو في المجتمع المدني المعولم.
(ج) هل من طريقة لاستعادة الوطنية المصرية؟
بالرغم من أن العاملين السابقين يمثلا إعاقة حقيقية لممارسة المواطن لمواطنته أي حركته لاكتساب الحقوق، ومن ثم تعبيره عن الوطنية..أي إعاقة المواطنة والوطنية من التبلور والتجسد،فإنه يجب الإيمان أنها مرحلة قد تطول أو تقصر ولكنها في كل الأحوال ليست أبدية. ويحضرني في هذا المقام كتاب عن التداعيات التي حدثت لروسيا بعد تفكك الإتحاد السوفيتي عنوانه"روسيا وطني:الأيديولوجية الوطنية للدولة"،حيث كان للعامل القومي وللروح الوطنية أثرهما في مواجهة كل تداعيات مرحلة ما بعد التفكك. أكثر من ذلك بدء موجة من الكتابات الغربية ربما لم يطلع عليها بعد دعاة العولمة في أوطاننا تنطلق من أن الانفتاح على العالم وعلى قيمه الحقوقية لا تغني عن النضال الداخلي من أجل استخلاص الحقوق.الأكثر من ذلك نجد في الأدبيات الغربية رصدا علميا إلى أن الوطنية، بالرغم من العولمة،تستعيد مكانتها(يراجع وجوه عديدة للوطنية وبخاصة المقدمة المعنونة عودة الوطنية The Return Of Patriotism الصادر منذ شهور ويتحدث الكتاب عن الحالة الأمريكية). كذلك تجدر الإشارة إلى ضرورة قراءة كتاب العالم الجليل أنور عبد الملك"الوطنية هي الحل"(الشروق الدولية 2007).
خلاصة القول الوطنية لا تموت طالما بقيت الأرض ووجدت الجماعة،وتفعيلها يحتاج إلى ممارسة المواطنة التي تعني مواجهة منظومة الإعاقة وتفكيك عناصرها (الليبراليون الجدد،الاقتصاد الريعي،التكنوقراط،والبيروقراطية،وأشكال التنظيم الأولية، لصالح: إعمال القانون بدون تمييز، وتحديث الإدارة،وتكوين تكنوقراط مبدع،على قاعدة اقتصاد إنتاجي، ومشاركة حقيقية وفاعلة للجسم الاجتماعي المصري في العملية الإنتاجية). وفي نفس الوقت مواكبة القيم الكونية العادلة والمحفزة على التقدم.
وأنا لا أشك لحظة في أن مصر لم يزل فيها من يتوق للتغيير بالحركة الفاعلة التي تعني لدينا المواطنة..المجددة للوطنية..
لا لم يزل لدينا الكثير من الوطنيين...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:
*إن استعادة الوطنية تكون بالتذكير بالخبرة الوطنية..وبانبعاث قومي..وابتكار آليات لاستنفار كل القدرات الكامنة في المجتمع..ومواجهة مشاكل المجتمع..
*لا يمكن أن يكون هناك بشر يعملون ويعيشون معا في مجتمع ما من أجل مستقبلهم المشترك من دون أن يكون لهم حضور فاعل ومشاركة حقيقية(أي مواطنة)..إلا ـ كما يقول هابرماس ـ بتمسك جميع المواطنين الصارم بما أسماه:Constitutional Patriotism "الولائية الوطنية الدستورية".