فنون تنقرض

(1) ليسمح لي القارئ الكريم أن نتحدث عن موضوع قد يبدو لدى البعض أنه أقل أهمية من موضوعات ساخنة مثل عدم وصول المياه لكثير من المناطق، أو بيع الأصول، أو الفساد، أو تراجع الدور الإقليمي لمصر..الخ. بيد أن هذا الموضوع في ظني يمثل حلقة من حلقات التراجع في كثير من المجالات، ألا وهو التراجع الحاد في المجالات التالية:السيرك، والعرائس، والفنون الشعبية.

فهذه النوعية من الفنون والتي تحتاج إلى مواهب من نوع خاص، وتدريبات متطورة، وتقنيات متقدمة، تعد من معايير تقدم المجتمعات. لذا فإني أتابع كل ما يكتب أو يقال عنها.
ومنذ عام تقريبا أذكر أني كتبت مقالا بنفس العنوان عندما شاهدت مقابلة تليفزيونية مع الأستاذ أشرف زكي نقيب الممثلين تحدث فيها عن شعب النقابة، وإنها ليست قاصرة في عضويتها على الممثلين المعروفين، بل أنها تتكون من 13 شعبة. وكانت المفاجأة المحزنة عندما بدأ يذكر عدد أعضاء بعض من هذه الشعب، حيث قال:
• شعبة السيرك تضم 100 فنان.
• شعبة العرائس تضم 20 فنانا.
• شعبة الفنون الشعبية تضم 20 فنانا.
وكان السؤال هل من المعقول أن مصر الثمانين مليون مواطن،لا يزيد عدد فنانيها في هذه الفنون الرفيعة المستوى عن عشرات الفنانين.وماذا عن فن الباليه،والموسيقى الكلاسيكية،والأصوات الأوبرالية. كذلك ما الذي حدث حتى تتناقص العناصر الفنية إلى هذا الحد الذي سوف يؤدي قطعا إلى انقراض هذه الفنون الراقية العظيمة؟

(2) لم يأت أي رد آنذاك،وفي هذا الأسبوع قرأت أكثر من تحقيق يتحدث عن أزمة الفرقة القومية للفنون الشعبية،كانت تحمل الإجابة،ويمكن أن تؤخذ كنموذج يجيب عن أسباب تراجع وانقراض هذه الفنون المتميزة. فالفرقة القومية للفنون الشعبية التي كونت رصيدا من الرقصات بلغ أكثر من 100 رقصة تم استلهامها من الواقع المصري بتنويعاته، لا تجد مالا للصرف على الفرقة بما تضم من عناصر فنية متنوعة:الراقصون، العازفون، الكورال، الديكورات، الملابس...الخ.والنتيجة هو انصراف العناصر الفنية عن النشاط.

هل من المعقول وقد عرفت مصر منذ عقود هذه الفنون بشكلها المتطور أن تتدهور أحوالها إلى هذا الحد، ولا تكون هناك قنوات تسهم في تفريخ أجيال جديدة من الفنانين في هذه المجالات لتأمين استمرار هذه الفنون. لقد ذكرت من قبل أننا في أشد الاحتياج لإجراء دراسة كالتي أنجزها المفكر الموسوعي الراحل الدكتور لويس عوض في كتابه "الثورة والأدب"وكان عنوانها:الثورة والثقافة،والتي عالج فيها بشكل نقدي أوضاع الثقافة في الستينيات وأوجه القصور وكيفية التطوير. أو بلغة أخرى نحتاج إلى دراسة "أحوالنا الثقافية".

(3) إن القضية في تصوري ليست في تناقص أعداد الفنانين وإنما في دلالة هذا التناقص وبخاصة بالنسبة لفنون عريقة مثل: السيرك الذي كانت له فروع عديدة في بر مصر وكان يمثل متعة حقيقية للمصريين،وفن العرائس الذي كبرت أجيال على مشاهدته وكان من ضمن برنامج الرحلات المدرسية وارتبط البعض" بصحصح "وبالليلة الكبيرة...،وكذلك بفرق الفن الشعبي مثل فرقة رضا ورقصاتها المتميزة وأفلامها الاستعراضية غرام في الكرنك..وأجازة نصف السنة.. التي لا تقل عن الأفلام العالمية لفريد استر وبين كروسبي واست وليامز.
ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت أن الانقراض قد بدأ يشمل فن المسرح – بالرغم من محاولات تنشيطه - أين الموسم المسرحي بمعناه التقليدي الذي يشمل عرض أعمال مسرحية لكتاب مصريين قدامى ومعاصرين،والمسرح العالمي للإطلاع علي إبداعات الآخرين وتناولهم للموضوعات المختلفة،والعروض التجريبية،بالطبع أعرف أن هناك مهرجانات متخصصة..ولكني أتحدث عن الموسم المسرحي الممتد على مدى السنة و برنامجه المعلن والمعروف..هل يعقل أن يكون مسرح الريحاني مغلق معظم العام،ألا يجب أن يفتح ويتخصص في عرض مسرحيات الريحاني..هل يعقل ألا يشاهد الجيل الجديد أعمال:علي أحمد باكثير،و الشرقاوي،ويوسف إدريس،ونعمان عاشور،وسعد الدين وهبة،وميخائيل رومان،ومحمود دياب،ورشاد رشدي،وصلاح عبد الصبور،وألفريد فرج،وعلي سالم،ومحمود السعدني،..الخ.

(4) إن دراسة "أحوالنا الثقافية"، ضرورة لا تقل في أهميتها عن دراسة أحوالنا في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية...فميلاد أجيال لا تتعرض لمثل هذه الفنون ولا تكون هذه الفنون من ضمن تكوينها الثقافي، ولا تعرف رموز الإبداع الفني والأدبي والثقافي محليا وعالميا.. يعني ترك هذه الأجيال لما يمكن أن نطلق عليه "ثقافة الخواء"، فلا تعرف مدى أهمية الإبداع في تنمية النفس والذهن والوجدان...فيتم ملء الخواء تلقائيا بالخرافة.. والأسطورة.. وبالفن الصاخب..والأدب المغشوش..
إن مجتمع تنقرض فنونه الراقية يكون مجتمعا بلا روح...وحاله بائس...
إن الاهتمام بإعادة بناء البنية الأساسية الثقافية لا يقل أهمية عن البنية الأساسية التحتية..من أجل مصر قوية ناهضة..إن استعادة الروح تكون بالفن والأدب والثقافة.


إضاءة:

• الفن هو الحياة...كل شيء ينقضي..الفن وحده الذي يبقى للتعبير عن المجتمعات الحية المبدعة.

 

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern