"أنظر حولك في "غضب

ليسمح لي الكاتب الإنجليزي الشهير" جون أوسبورن"،أن أستعير عنوان مسرحيته الأشهر"أنظر وراءك في غضب"، للتعبير عن ما يحدث في مصر الآن ،مع السماح بقدر من التصرف.. فمن يتابع الإعلام المصري (القومي والحزبي والمستقل) في تغطيته لكثير من الأحداث التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، سوف يجد الغضب حاضرا بقوة.
الغضب من سوء ما يحدث واستدامته..
والغضب من صعوبة وجود حلول..


والغضب من التعامل غير الجاد مع الأزمات..
لقد راعني كلام الناس الغاضب في كثير من التحقيقات الصحفية تعليقا على ما يحدث لهم من أحداث وما يتعرضون له من مشاكل..كذلك المكالمات الهاتفية التي يجريها المواطنون مع البرامج الحوارية والتي تعبر في مضمونها عن غضب حقيقي. إنه أمر يجب الالتفات إليه وتأمله وفهمه... حيث يجب مراجعة مفردات هذا الكلام وأثره إجمالا وعلى الأجيال الشابة بخاصة (حتى إذا كان البعض قد يصف جانبا منه بالمبالغة)..لقد بات الغضب من حولنا في كل مكان..وباتت شرائح اجتماعية كاملة تعيش حالة من الغضب الدائم.

لماذا الغضب؟

استطاع الناس التعايش مع كثير من الأزمات التي مرت بها مصر وما أكثرها، على مدى زمني ممتد،بيد أنه في ظني أن الذي دعم قدرة المصريين على التحمل هو الشعور بأن هناك مساواة بينهم في المعاناة،وأن الجميع يشاركون بدرجة وأخرى في تحمل كلفة هذه المعاناة. ولكن ما أن اختل هذا الأمر أي أصبح هناك غالبية تدفع هي التكلفة دون غيرها، كان الغضب هو التعبير الطبيعي عن ذلك..فما أن شعر المصريون بأن الأولوية في توفير المياه النقية أصبح يتم لصالح القرى السياحية الخاصة وري حدائق الفنادق الفاخرة على حساب حق الناس في أن تتوفر لهم أساسيات الحياة الإنسانية(بالرغم من المبررات المعلنة عن أن ذلك سوف يزيد الاستثمارات و من فرص العمل ويقلل البطالة،..الخ)، بيد أن المساس باحتياجات الناس الحياتية لا يبقي أمام الناس إلا الغضب ويحضرني هنا ما عبرت عنه احدي السيدات لعدم توفر مياه بقولها:"حتى المية".

الأغلبية الغاضبة:

إن الغضب الحاضر الآن ماهو إلا ذروة نتيجة تراكم كثير من الأمور،تعكس في المجمل وجود حالة من "الانسداد"أمام الكثيرين في التعبير عن أنفسهم وتوفر فرص قائمة على معايير موضوعية وعادلة للترقي وللتطور بصورة آمنة وسلسة وطبيعية ومن ثم إمكانية تحقيق ذواتهم وبخاصة من الشرائح الوسطى والدنيا..وهو أمر يجب أخذه في الاعتبار. لقد لفت نظري في كثير من التحقيقات الصحفية والتليفزيونية أن الغاضبين ينتمون بشكل أساسي إلى هذه الفئات التي تمثل الأغلبية من المواطنين إنها "الغالبية الغاضبة"،وأن غير الغاضبين هم من ينتمون بالأساس إلى الشرائح الوسطى العليا فما فوق. إن لحظة "الانسداد "هي أخطر ما يمكن أن يتعرض له مجتمع من المجتمعات..فأحواله (أحوال المجتمع) لا تساعد الناس على أن يحلموا بغد أفضل فهم منهكون بتدبير أحوالهم يوم بيوم.. ولا تعمل على تمكين الناس من الإبداع والانطلاق فهم دائما مقيدون باللوائح والروتين والعادات والتقاليد والأعراف وسلطة الخرافة..الخ، في اللحظة التي تنفتح فيها الطرق أمام الآخرين غير الغاضبين (الأقلية غير الغاضبة)...وهكذا تتعدد أسباب الغضب(الغضب من الظروف السيئة، والغضب من العمل الذي لا يوفر الاحتياجات المادية المطلوبة كذلك فرص الترقي، الغضب الناتج من الإحساس بالموهبة ولكن لا تتوفر الفرصة للاستفادة منها، الغضب بتراجع قيم العمل والتعليم والمشاركة لحساب الفهلوة والخبطة والصفقة،الغضب من عدم المساواة بين الجميع في الفرص المتاحة في شتى المجالات وأخيرا الغضب من نقص الاحتياجات الأساسية ).وعليه لا يصبح أمام الذين أغلقت أمامهم السبل إلا الغضب الذي تتعدد تجلياته وتعبيراته:الشكوى، التذمر،عدم الرضا،اليأس،الإحباط،عدم الثقة في المستقبل،العنف الرمزي والمادي،...الخ.

المراجعة المطلوبة:

يبدو لي أن هناك رؤية سائدة تنظر للجسم الاجتماعي لمصر،وهنا تكمن الإشكالية،باعتبار أن هناك أقلية ثروية هي القادرة على الاستثمار ومن ثم لابد من توفير كل ما من شأنه أن ييسر هذا الأمر ويسرع بتنفيذ المشروعات، لأن هذا يعني أن تتولد أموال للفئات الوسطى والدنيا تتيح لهم المشاركة في الاستهلاك(يلاحظ الاستهلاك) ليس فقط في حده الأدنى بل في حده الأقصى،وهو ما عرف "بديمقراطية الاستهلاك"،أي التساوي بين الناس في الاستهلاك فقط،دون عدالة توزيع الثروة من خلال المساواة في توفير الاحتياجات الأساسية للجميع(من تعليم وصحة ومرافق أساسية) وبالتالي المشاركة السياسية.. بيد أن هذا تم على حساب تأجيل كثير من المشروعات البنيوية الأساسية وخاصة في الريف، وفي العديد من المدن(فهي مشروعات تحتاج لاستثمارات حكومية،كما أنها تدخل في ماكينة البيروقراطية بتعقيداتها فيتأخر إعطاء المال للمقاولين بسبب نقص المخصصات من جهة،وتعقد الإجراءات الإدارية من جهة أخرى،وهكذا) لصالح المشروعات الاستثمارية الخاصة(التي تذلل أمامها كل العراقيل في المقابل)..
إن السؤال البديهي الذي يقفز في ذهن الناس هو كيف لماذا تنجز المشاريع الاستثمارية الخاصة بأقصى سرعة ممكنة في الوقت الذي تتعثر فيه مشروعات البنية الأساسية والتي من شأنها توفير الاحتياجات الأساسية للناس وكيف يستقيم هذا..ألا يكفي ما نتحمله من أعباء حياتية يومية... بالطبع لا يخفى على القارئ الكريم أن المال المتولد بالأساس هو نتاج لما يمكن تسميته بالاقتصاد الريعي،وليس الاقتصاد المؤسس على عمليات التراكم الإنتاجي الإنمائي. وعليه كانت المشاهد التي رأيناها على مدى الأسبوعين الماضيين..

مما سبق،أتصور أن هناك ضرورة لتغيير المفهوم الحاكم للرؤية التي تدير الأمور،فتوفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية ليس أمرا خدميا وإنما..
هو حق أصيل للمواطنين
واستثمار بعيد المدى للمجتمع ككل.
وظني أن هذا هو وحده الكفيل بدفع الأمور نحو الأفضل... ورفع الغضب...وفتح آفاق ممتدة للجميع...وتفكيك حالة الانسداد المجتمعية أمام الغالبية الغاضبة وفي القلب منهم الشباب للانخراط في المجتمع والمساهمة الإيجابية في تقدمه..وتحويل طاقة الغضب المدمرة إلى طاقة بناءة...

 

إضاءة:

• إني أشعر بالغضب لأنه لا شيء يتبدل.

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern