"ألغام في حياتنا:"عمالة الأطفال

على مدى زمني طويل كان هناك اتجاه سائد يصنف القضايا إلى نوعين،النوع الأول يمكن أن نطلق عليه القضايا الكبرى الجديرة بالنقاش من نوعية التحديات الحضارية التي تواجه الأمة،الهوية،الحفاظ على الخصوصية،..الخ.والنوع الثاني يدخل في إطار ما يمكن تسميته بالقضايا الصغرى مثلا التسرب من التعليم،أطفال الشوارع،..الخ. . ولصالح النوع الأول تم التركيز على القضايا الكبرى(مع تقديري الكامل لأهميتها) وأهملنا الحديث عن ما أسميناه بالقضايا

الصغيرة،تارة بحجة أن هناك أولويات،وتارة أننا في مواجهات خارجية لا يصح أن نفتح معها مواجهة مع قضايا الداخل،وتارة أن هذه القضايا ليست من نتاج الأجندة الوطنية،..وهكذا. بيد أن الواقع بات يصرخ طلبا للغوث و"يستصرخ" فينا الاهتمام والتحرك لاتخاذ اللازم،فالقضايا الصغرى لم تعد كذلك حيث تداخلت وتشابكت،وأصبحت مركبة ومزمنة ولم يعد يفيد التعامل معها بمنطق إنها قضايا ومشاكل من الدرجة الثانية،لأنها في الواقع باتت" ألغاما" قابلة للانفجار في أي وقت.

و من المشاكل التي أطلت برأسها علينا في الآونة الأخيرة، واكتشفنا مدى جسامتها، مشكلة "عمالة الأطفال"؛ويقصد بها " العمل الذي يؤدي إلى استغلال الطفل ويعرضه لظروف عمل لا تراعي حقوقه التعليمية والصحية والاقتصادية والترفيهية وتحرمه من تنمية قدراته ومن صيانة كرامته،هو العمل الذي يضر بنموه البدني والعقلي والنفسي وبسلوكه الأخلاقي والاجتماعي"،والطفل هنا هو كل من لم يبلغ 18 عاما. ومن واقع المسح القومي لعمل الأطفال في مصر الذي أجراه سنة2001 المجلس القومي للطفولة والأمومة،نجد أن هناك 3 مليون طفل عامل في مصر يمثلون أكثر من خمس الأطفال الذين ينتمون للشريحة العمرية من 6 إلى 14سنة موزعة على القطاعات المختلفة كما يلي:64% في القطاع الزراعي،13% في النشاط الحرفي،12% في النشاط التجاري،9% في القطاع الخدمي،و2% في القطاع الصناعي. وعلى الرغم من أن البنية القانونية المصرية قد واجهت هذا الأمر بشكل مباشر من خلال القانونين التاليين:أولا القانون رقم 12 لسنة 1996الخاص بأحكام حماية الطفل،ثانيا قانون العمل رقم 12 لسنة 2003،إلا أن الواقع أثبت عدم قدرة القوانين وحدها على مواجهة المشكلات ذات الطبيعة الاجتماعية المركبة.لماذا؟

أتفق في أدبيات وممارسات التنمية المعنية بمواجهة مشاكل المجتمع المتنوعة على أمرين هما:
• أنه لم يعد هناك مشكلة بسيطة بل هناك مشكلة مركبة تتضافر عدة عوامل لتفاقمها.
• أنه لم يعد هناك تفسير وحيد للمشكلة وإنما تفسير متعدد الأبعاد.
ويفيد ما سبق في اختيار نوعية الحلول،فعدم الاهتمام بدراسة أسباب الظاهرة يؤدي إلى الأخذ بحلول ذات طابع خيري Charity Solutions تقوم على الإعانة والصدقة التي تبقي الأمر الواقع على ماهو عليه..كذلك فإن التعامل مع المشكلة من خلال التحليل الأحادي المنظور كونها مشكلة ثقافية أو اقتصادية،يجعل نمط الحلول المقدمة ذات طابع وظيفي Functional Solutions أي تقديم وجبة للطفل العامل،المشاركة في دفع تكلفة التعليم الذي أصبح مكلفا على الأسرة حتى لا يتسرب من التعليم ،ولا مانع في هذه الحالة أن يمسك الطفل بتأثير من أسرته المحتاجة بين العمل والتعليم،أي يستمر الطفل في العمل بالرغم من الخطورة الأكيدة لعمالة الطفل. وعليه يصبح من الضروري الأخذ بالمنهج المركب الذي يرى أن هناك أبعادا اقتصادية (الحالة الاقتصادية المتدنية للأسرة،ارتفاع تكلفة التعليم،ارتفاع أسعار السلع الأساسية،عدم قدرة الأسرة صاحبة المهنة على توفير عمالة بأجر ومن ثم الاعتماد على أطفال الأسرة،اختفاء العائل)وثقافية –اجتماعية ( التصدع الأسري،قيم ثقافية تشجع عمل الطفل باعتبار ذلك أمرا يصقل الطفل،) وسياسية تتعلق بموازين القوى في المجتمع( التعديلات في قوانين العمل وانحيازها لصاحب العمل،تراجع المخصصات المالية في الميزانية العامة بالنسبة للخدمات الأساسية،التفاوت في تنمية المناطق،ضعف شبكات الأمان الاجتماعي،الثغرات في التشريعات)،ومن ثم وفي ضوء هذه الأبعاد مجتمعة (الاقتصادية،والثقافية،والاجتماعية،والسياسية) يتم وضع حزمة من الحلول المتشابكة جذرية الطابع. وبذلك نحمي مستقبل مصر..كيف؟

تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن الفئة العمرية من الميلاد إلى من هم أقل من 15 سنة ، تصل نسبتهم تقريبا إلى 40% أي 30 مليون نسمة،وهو أمر لا أظن أن هناك من يختلف على أنه جدير ليس بالاهتمام بل و بالاستنفار،لان مستقبل مصر ممثلا في 40% من شباب المستقبل يكون في خطر حقيقي. فلقد أثبتت الدراسات أن مشاركة الأطفال المبكرة في العمل يكون لها آثار خطيرة على نموهم من جميع الأبعاد النفسية والصحية والذهنية.ولان عمالة الأطفال نجدها وقد انتشرت في جميع المجالات مثل:المناجم والمحاجر والمسابك والمخابز وورش السمكرة والدوكو واللحام والحدادة والصباغة والدباغة بالإضافة للعمل الزراعي بأنواعه، فانه يجب إدراك أن الأطفال يتعرضون لأمراض جسيمة وإجهاد حراري وتشوهات جسيمة وعجز وسوء تغذية وتهوية وإعاقات وتعرض لغازات سامة وحروق وتليف الرئة وتسمم الدم وتآكل الأطراف وتيبس الأطراف...الخ. وعليه ينبغي بداية إعمال قانون الخاص بالسلامة والصحة المهنية بكل صرامة لحماية الأطفال من مما يعرف بالمخاطر الكيميائية والبيولوجية والهندسية والفيزيائية. ثم وضع خطة قومية مشتركة بين الحكومة والمجتمع المدني وأصحاب العمل والأهالي تتدرج من:
• نقل الأطفال من الأعمال الخطرة إلى أعمال آمنة وذلك بإعادة تأهيلهم.
• حماية الأطفال العاملين بتفعيل قوانين السلامة المهنية والتفتيش المستمر على بيئة العمل ومراعاة تنفيذ برامج تنموية شاملة للأطفال.
• وفي النهاية منع الأطفال من العمل وفق المعايير الحاكمة لهذا الموضوع وهو ما يحتاج إلى تطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العامة.

إن مشكلة عمالة الأطفال واحدة من ألغام كثيرة لابد من أن نعني برفعها قبل أن تنفجر في واقعنا الاجتماعي..وأتصور أنه قد آن الأوان كي ننشغل بقضايا باتت مصدرا للخطر على مستقبلنا المشترك..فلم يعد لدينا ترف أو رفاهية الاشتباك حول قضايا قتلت بحثا ذلك بإعادة إنتاجها مرة أخرى..أليست مثل هذه النوعية من المشاكل /الألغام جديرة بالعمل المشترك..ومن أجلها نعيد النظر في السياسات التنموية الحكومية من جهة، وفي الخطط التنموية الأهلية من جهة أخرى، وفي اهتمام مثقفينا بهذه النوعية من المشاكل،وتوجيه الناس إلى الوعي بها...وإلى لغم آخر.


samirmorcos9@yahoo.com

_______________________________________________________
إضاءة:
• 70 % من الأطفال العاملين يعملون لدى ذويهم بدون أجر.
• تتركز عمالة الأطفال في القطاع غير الرسمي،الغير خاضع للرقابة والتفتيش.
• عمل الأطفال في القطاع الزراعي لا يخضع للحماية القانونية .
• قانون التأمينات الاجتماعية لا يمد حمايته على الأطفال العاملين لان عمر المؤمن عليه يجب ألا يقل عن 18 عاما.

 

جسور:

* اعتذار لكل طفل عامل لأننا حرمناه من أن يعيش طفولته..ودفعناه دفعا إلى العمل المضني..وأن يتعرض لمخاطر جسيمة تؤثر على مستقبله..ولم يستطع شعار السياحة هي مستقبل التنمية في مصر ولا اقتصاد التوكيلات..الخ، مواجهة مشاكل عمالة الأطفال... أطفال مصر:مستقبلها وعدتها...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern