"جنة" الأطفال و "نار" الكبار

(1) البراءة المقطرة هي الطفولة، براءة تجعل الأطفال يقبلون على الحياة بلا حسابات مسبقة،كما تدفعهم إلى التأمل والرصد لما يحدث من حولهم دون ريبة أو شك ،وإصدار أحكام بدون مجاملة أو تزويق ترقى لأحكام القاضي العادل والصارم. إنها العفوية الجميلة التي خلقنا الله عليها، قبل أن تتدنس أو تتلوث بفعل تعقيدات الحياة. وكما يقول صلاح جاهين:


"كل الخلق من أصل طين"
" وكلهم بينزلوا مغمضين"...عن الشر والخطيئة والأذى.
(2) ينفتح الأطفال على العالم والآخر بغير شروط أو قيود،يطبقون إرادة الله في التعايش بين البشر،حيث من" سننه" أن الذات لا يمكن أن تعيش بغير آخر.فالذات لا يمكن أن تكتشف ما لديها من إمكانيات بغير تفاعل أو اكتشاف –على الأقل- لما لدى الآخر من إمكانيات.
فمن يتصور انه يستطيع أن تقوم له قائمة وحده، وانه يملك الحق المطلق،أي لا يرى أن هناك آخر فإنه يتصف بما يعرف "بالذاتية العمياء" التي تؤدي بصاحبها إلى نهاية غير طيبة،فالآخر شرط لوجود الذات. لا تختل هذه السنة إلا بالصور النمطية التي يكونها الإنسان عن أخيه الإنسان بغير تدقيق ،أو بإعلاء المصالح الذاتية ،أو بسبب واقع متعثر،أو الشعور بالأفضلية، أو بعدم المبادرة في عبور الجسر كما يقول أدونيس.

(3) في هذا السياق، يقدم لنا الأديب المبدع نجيب محفوظ في قصته القصيرة " جنة الأطفال"، (إحدى قصص المجموعة القصصية خمارة القط الأسود الصادرة عام 1969)، نظرة الأطفال البريئة إلى الآخرين والتي تنعكس في علاقات نقية يتبدى فيها العالم بالنسبة لهم كالجنة. وبفعل البراءة والبساطة نجد الطفلة بطلة القصة تطرح أسئلة بسيطة جدا ولكنها تحمل عمقا فلسفيا لا يستطيع الأب أن يجيب عنها مما يضطر إلى أن يحتد ويتوتر.وهنا يبدو كما لو أن الحياة وقد انشطرت إلى شطرين:" جنة الأطفال" و " نار الكبار".
ما الذي أدى بالحوار إلى هذه النتيجة بين الطفلة وأبيها؟

(4) بداية تعود الطفلة في أحد الأيام من مدرستها، وفور دخولها إلى المنزل تسأل والدها:"أنا وصاحبتي نادية دائما مع بعض..في الفصل، في الفسحة، وساعة الأكل.لكن في درس الدين أدخل أنا في حجرة وتدخل هي في حجرة أخرى...لم يا بابا ؟ "
ويجيب الوالد:"لأنك لك دين وهي لها دين آخر"...
وعادت وسألت الطفلة"لم أنا مسلمة؟..
فأجابها الوالد:" بابا مسلم وماما مسلمة ولذلك فأنت مسلمة".وعقبت "ونادية ؟"؛
أجابها الوالد"باباها مسيحي وأمها مسيحية ولذلك فهي مسيحية"...
وكان رد فعل الطفلة مفاجئا للوالد، حيث قالت:"هل لأن باباها يلبس نظارة؟"..
الطفلة البريئة حاولت أن تتفهم الاختلاف فلم تجد سوى النظارة التي يلبسها والد نادية هي مكمن الاختلاف الوحيد بينها وبين نادية.
ومع تطور الحوار قالت الطفلة:"من أحسن"...لقد أدى الواقع إلى تجسيم أن هناك اختلاف بين الطفلة وصديقتها،بعد أن كانتا في حالة تعايش بغير التفات لأي اختلاف.
الواقع هنا هو النظم واللوائح التي من وضع البشر..والتي بدلا من أن تدفع نحو مزيد من التواصل الإنساني، فإنها تكرس التقسيم وتفصل بين الناس..بغير أن يكون لدينا إجابات حقيقية تفسر ما يحدث..فلا يصبح أمام الأب سوى أن يقدم إجابات هي في الواقع تعظم من الانفصال وتظهر الذاتية العمياء التي لا تريد رؤية الآخر..وتخلق حالة نرجسية تباعد بين البشر.
وكلما تكثر الطفلة من أسئلتها البسيطة البريئة..نكتشف عمق التناقض الذي يقع فيه الأب مع كل إجابة يقدمها لأسئلة الطفلة...
فالأسئلة التي نتصورها بديهية وسهلة الإجابة هي في حقيقة الأمر ليست كذلك..والإجابات التي نرتكن إليها ونظنها حاسمة نجدها تزيد من التباس الطفلة وقلقها...فما يكون من الوالد إلا أن يقول "الله يقطعك أنت ونادية في يوم واحد"...ويظهر للوالد أنه يخطئ رغم الحذر،وأنه يدفع بلا رحمة إلى عنق الزجاجة بسبب أسئلة الطفلة التي انهالت على الوالد ،من عينة:
ما معنى خالق يا بابا؟
وأين يعيش؟
ولم يريد الله أن نموت؟ يجيب الوالد:هو يأتي بنا إلى هنا ثم يذهب بنا.
وتسأل الطفلة :لم يا بابا!، فيجيب الوالد:لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب.
وتسأل الطفلة مرة أخرى :ولم لا نبقى؟
يرد الوالد:لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا . وتستفهم الطفلة: ونترك الأشياء الجميلة؟
يجاوبها الوالد:سنذهب إلى أشياء أجمل منها...وفجأة تقول الطفلة: إذن يجب أن نذهب؟
وبسرعة يقول الوالد:ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد..وتقول الطفلة عن جدها الذي مات: هل فعل؟
يجيب الوالد:نعم..بنى بيتا وزرع حديقة.
فتقول الطفلة ولكن لولو جارنا يضربني ولا يفعل شيئا جميلا..فهل يموت رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة؟...
يقول الأب:الكل يموت...فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله..ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار.
شعر الأب في النهاية بمدى ما حل به من إرهاق..ولم يدر كم أصاب ولا كم أخطأ.وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه.
وفجأة هتفت الطفلة:
أريد أن أبقى دائما مع نادية.

وبعد ما أحوجنا أن نتواصل ونمد الجسور فيما بيننا بالرغم من أي اختلاف...وليكن التنوع مصدرا للقوة...في مواجهة كل ما يهدد"جنة الأطفال".


إضاءة:
يقول الشاعر الكبير أدونيس؛
الجسر استهلال هو في الوقت نفسه لا يكتمل إلا في استهلال آخر، -
ليس الجسر جوابا في كتاب الحياة، إلا بقدر ما هو حياة من الأسئلة.
لم الجسر ؟نحو ماذا ، ومن ؟
هل الضفة الواحدة نصف المعنى ؟
هل الجسر يضم إلى المعنى نصفه الآخر ؟

جسور:
• شكر حار للتحية الرقيقة التي أرسلها لي الصديق الكبير الكاتب الوطني الأستاذ عبد العال الباقوري من خلال عاموده الأسبوعي في جريدة العربي،على المقال الذي كتبته في جريدة الوفد الأسبوع الماضي حول كلمة برنارد لويس في مؤتمر هرتسليا الإسرائيلي :والذي روج فيه لنهاية الدولة الوطنية في المنطقة وبدء مرحلة الانقسام المذهبي... يبدو لي إن الاقتتال الفلسطيني... والتوتر الديني المصري...والانشطار اللبناني... ليس بعيدا عن ما قال...
• إشادة واجبة للأستاذ الكاتب الكبير سعد هجرس على مقاله الأسبوعي في جريدة الجمهورية حول وثيقة "مواطنون في وطن واحد".. وحسه الوطني البالغ في الدعوة إلى دعم الوثيقة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern