كنت أنوي الكتابة عن أحوالنا في المجال الثقافي،هذا الأسبوع،بيد أن تداعيات واقعة العياط تفرض نفسها ليس على الحاضر وإنما أيضا على مستقبل مصر، وأذكر إنني قلت أن تحولا جذريا قد حدث في هذه النوعية من الأحداث وذلك أن التحرك قد اتخذ طابعا جماهيريا يرفع شعارات جهادية،كذلك تم الأخذ بأشكال عرفية للمصالحة تنتمي لزمن ما قبل دولة المواطنة. بيد أن ما دفعني إلى العودة للكتابة
عن السبب الذي أثار التحرك الجماهيري ألا و هو بناء الكنائس،ثلاثة دوافع، أولها بعض الأحاديث من جانب بعض من شاركوا في أحداث العنف أرجعوا تحركهم لكتابات ابن القيم الجوزية والذي سوف نتناوله لاحقا(وتذكرت مقولة أستاذنا وليم سليمان قلادة التي أطلقها في مجلة المصور في الثمانينيات أن العنف يبدأ فكرا)،وكان السؤال لماذا لا يؤخذ بفقه الليث بن سعد الفقيه المصري العظيم تلميذ الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة الكبار،الذي قال عن الكنائس بأنها من عمارة الدنيا وزينتها.ثانيها نص ما جاء في محضر المصالحة الذي صوره لي مشكورا الأستاذ منير فخري عبد النور حول استخدام المكان، سبب المشكلة، في غير المظاهر الكنسية وكأنها شيئا معيبا.وثالثها شعوري بأن مصر المركب الحضاري المتعدد العناصر يتعرض لخطر شديد (والحديث عن مصر المركب الحضاري يمكن أن نعود له بالتفصيل في مقال لاحق). وأخيرا هل يمكن أن تكون الفتاوى المعاصرة ومن ضمنها فتوى الشيخ الخطيب كذلك الوافدة بهذا الحجم من التأثير بالرغم من التراث الفقهي المصري والاجتهادات المعاصرة مثل التي طرحها فهمي هويدي. فبناء الكنائس بالإضافة إلى دلالته الدينية المباشرة فانه أحد مظاهر التعددية الحضارية المصرية وهو ما أتناوله في هذا المقال، ومسيرة بناء الكنائس في مصر خير شاهد على ذلك، ولعله من المفيد إلقاء الضوء على هذه المسيرة وخاصة لكثرة اللغط حول هذا الموضوع ،وتوجيه النظر إلى خصوصية الخبرة المصرية في هذا المقام،والذي لا يمكن أن تحل محله خبرة أخرى أدنى .
(أ)بناء الكنائس في مصر القبطية:
في منتصف القرن الأول الميلادي، وجد المصريون في المسيحية مخلصا من القهر الاجتماعي والسياسي، الذي كان يتعرضون له. وبالرغم من تبعية مصر للإمبراطورية الرومانية إلا أن هذا لم يمنع الكنيسة بفضل الدعم الشعبي،أن تؤسس مؤسساتها اللاهوتية والثقافية،وأن تنمو قوى المعارضة الشعبية في كنف الكنيسة، حسبما يجمع المؤرخون.ولم يظهر أي تغيير في موقف الإمبراطورية الرومانية من المصريين وكنيستهم حتى بعد اعتمادها للإيمان المسيحي ديانة رسمية لها.وظلت الكنيسة المصرية الوطنية تلعب "دور القيادة الوطنية واللاهوتية"،المقاومة للمحتل الأجنبي بالرغم من إتباعه للمسيحية. وكان بناء الكنائس ينتشر في كل ربوع مصر،وكان يعبر عن أمرين:
• انتشار الإيمان في أنحاء مصر، ومن ثم ضرورة توفر أماكن للعبادة كي يتمكن المصريون من ممارسة شعائرهم الدينية.
• مثلت الكنيسة رمزا للمقاومة وحماية للشخصية الوطنية في مواجهة الأباطرة الرومان.(ويشار إلى الصلوات التي يتضمنها القداس القبطي من أجل نهر النيل ومصر لما لذلك من دلالات هامة تاريخية ووطنية ولاهوتية).
(ب) بناء الكنائس بعد دخول الإسلام إلى مصر:
حرص الولاة في مصر على تنظيم بناء الكنائس،بحسب سيدة الكاشف.ومنذ التعامل الأول بين عمرو بن العاص والبابا بنيامين،سمح للأقباط ببناء ما هدم من كنائس وأديرة وقت هرقل.ومن المتفق عليه بين المؤرخين،إن بناء الكنائس وتجديدها من الموضوعات التي لم يكن للحكم الإسلامي فيها سياسة ثابتة،حيث تأرجح الموقف منها حسب الظرف الاجتماعي والسياسي وليس الديني. وللتدليل على ماسبق – على سبيل المثال لا الحصر- إنه وقت خلافة هارون الرشيد أمر والي مصر علي بن سليمان بهدم بعض الكنائس،لاعتبارات غير دينية وإن وظف فيها الدين. بينما أذن الوالي التالي له،موسى بن عيسى (وقت هارون الرشيد أيضا) للأقباط ببناء الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، واعتبارها - بحسب الفقهاء- من "عمارة الأرض".
و يشار إلى أن ما نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب،من وضع شروط حول هذا الأمر – وهي الشروط التي عرفت بالشروط العمرية- يعد بريئا منها ،حيث أن هذه الشروط انتشرت واستقرت بعده بخمسة قرون على الأقل.وقد حفظ المؤرخون مثل: الطبري،والبلاذري،وآخرون،شروط عمر وليس فيها تشدد أو انتقاص لحرية غير المسلمين. ويؤكد ذلك فهمي هويدي في كتابه"مواطنون لا ذميون"،حيث يقول "عسير أن نعثر على صيغة محددة لذلك العهد إذ اختلفت الروايات في شأنه اختلافا يبعث على الشك من البداية،ولو أن الاختلاف كان في بعض التفاصيل مع وحدة الموضوع لكان الأمر مقبولا،إذ ليس مستغربا أن تختلف صياغة عهد يفترض أنه تم في ذلك الوقت المبكر من التاريخ،إنما الملفت للنظر أن الاختلاف امتد ليشمل مصدر الرواية ذاته،وأطراف العهد ومكان حدوثه."ويقطع هويدي" أن موضوع إقامة الكنائس في بلاد الإسلام أخذ حجما أكثر مما ينبغي فعندما يقرر الإسلام شرعية الآخرين،ويحث على وجوب احترام عقائدهم وعوائدهم،فإن أول ما ينبغي أن يكون مصونا للآخرين من حقوق هو حرية العبادة". ونجده ينتقد،بعض الكتب التراثية التي تناولت هذا الموضوع بشكل سلبي، بسبب السياق الذي كتبت فيه مثل كتاب "أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية"،الذي أشرنا له في البداية.
(ج) بناء الكنائس في مصر الحديثة:
بتأسيس مصر الحديثة، أخذت مسارا مختلفا عن باقي دول المنطقة،وبالرغم من التبعية القانونية للدولة العثمانية، إلا أن محمد علي بدأ يفك الارتباط نسبيا بينها وبين مصر. وبزغت المواطنة من أعلى (كما أشرنا في دراسة مبكرة عن مراحل المواطنة الخمس التي سارت فيها مصر على مدى 200عاما). بيد أن الصراع بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية المهيمنة على مقدرات الدولة العثمانية وفق ما عرف بنظام الامتيازات، جعل السلطان عبد المجيد الأول يصدر ما يسمى بالخط الهمايوني سنة 1856،( ويعني "الخطاب أو التوجيه أو البيان الموجه من الباب العالي"، أي نص ليس له صفة التشريع الملزم)،في إطار الإصلاحات التي أراد إثبات مرونته بها تجاه غير المسلمين. وحول هذا الخط نرصد الملاحظات التالية:
1. الخط الهمايوني،مثله مثل أي خطاب يصدر عن رئيس دولة ليست له صفة التشريع الملزم،خلافا "للفرمان "و"الديكريتو".
2. لم يصغ النص في مواد كما هو الشأن في التشريعات.وإنما كتب بصيغة يتغنى فيها صاحبه بعبارات التمجيد والتفخيم.
3. بالرغم من أن جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية المخصصة لنشر القوانين والتشريعات، كانت قد صدرت منذ سنة 1830، إلا أنه لم ينشر فيها هذا الخط ومن ثم لا يكون قد اكتسب صفة التشريع الملزم. وهذا النشر لم يقم عليه دليل حتى الآن،بحسب أ.عادل عيد المحامي .
4. كانت مصر وقت صدور الخط الهمايوني تتمتع باستقلال تشريعي بحسب إجماع المؤرخين والقانونيين.
5. كان هذا الخط موجها إلى الكتل المسيحية التي قبلت بنظام الملل في الشام،هذا النظام لم تعرفه مصر بالمطلق(ويمكن الإحالة لمزيد من التفاصيل إلى أبو سيف يوسف في كتابه الأقباط والقومية العربية، وعزيز سوريال عطية في تاريخ المسيحية الشرقية،ومحمد عفيفي في الأقباط في العصر العثماني، وكاتب هذه السطور في الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط) حيث كان الأقباط مندمجون رأسيا في الجسم الاجتماعي لمصر.
6. المفاجأة، أن القرارات الرسمية الحديثة والتي كانت ترخص لبناء الكنائس مع مطلع القرن العشرين وتجديدها لم تكن تشر للخط الهمايوني، وإنما إلى قانون قديم صادر في عهد الملك فؤاد هو القانون 15 لسنة 1927،الذي يقوم بتنظيم السلطة فيما يتعلق بالمعاهد الدينية وبتعيين الرؤساء الدينيين.والمفارقة انه لا يتناول موضوع بناء الكنائس أو تجديدها لا من قريب أو من بعيد. وقد استمرت الإشارة لهذا القانون في ديباجة القرارات الجمهورية لاحقا.(هناك قرارات بتفويض المحافظين والجهات الإدارية تم على ثلاث مراحل بالقرارات جمهورية: رقم 13 لسنة 1998، ورقم 453 لسنة 1999 ورقم 291 لسنة 2005، وإن بقي المناخ على ما هو عليه.
7. ويذهب وليم سليمان قلادة إلى أكثر من ذلك بقوله أن دستور 1971 قد ألغى أي أثر للخط الهمايوني فعليا، وذلك بالنص في المادة 46 علي أن تكفل الدولة " حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية"، بالمطلق.
8. لا يوجد تاريخيا أي قوانين تفصيلية خاصة ببناء الكنائس،سوى الإجراءات الإدارية الشهيرة المعروفة "بشروط العزبي باشا"(وكيل وزارة الداخلية) الذي أصدرها في فبراير سنة 1934 ، وهي إجراءات إدارية لا ترقى لمرتبة القانون.
9. والأكيد أن بناء الكنائس خلال القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين، لم يكن يواجه بأية قيود،ولم تكن هناك ثقافة اجتماعية مانعة لذلك. وجدير بالذكر أن القضاء المصري أصدر أحكاما تاريخية هامة في مجال حرية ممارسة الشعائر الدينية وإنشاء دور العبادة،ويشار هنا إلى الحكم التاريخي في القضية رقم 615 لسنة 5 القضائية بتاريخ 16 ديسمبر سنة 1952،والذي أصدره الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري و جاء فيه:
" إن اشتراط ترخيص في إنشاء دور العبادة على نحو ما جاء في الخط الهمايوني لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات لا مبرر لها دون إنشاء هذه الدور مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية."
وبعد،مما سبق نجد أن بناء الكنائس في مصر لم يكن يخضع لنص مكتوب وإنما لواقع اجتماعي ولحاجة دينية وذلك على مر العصور:فالمصريون الذين تحولوا إلى المسيحية في مصر كانوا يبنون الكنائس في بلدهم ،وبعد دخول الإسلام إلى مصر كان الأمر يتوقف على الظرف التاريخي أكثر من الموقف الفقهي، وإن تبلور فقه مصري لاحقا قاده الليث بن سعد يبيح ذلك،وأن نقطة التحول تمثلت في الخط الهمايوني الذي لم يكن يخاطب الواقع المصري بالأساس ولم يكن يوافق مسيرة المواطنة التي كانت آخذة في التبلور مع تأسيس الدولة الحديثة وإنجاز الحركة الوطنية في ثورة 1919،وكيف أن الشروط العشرة صدرت في ظرف تاريخي حرج تحت مظلة حكومة ديكتاتورية ودستور 1930 المعروف بحرمانه للكثير من حقوق الشعب،والذي عد انقلابا دستوريا بامتياز. يضاف إلي ماسبق تأثير فقه مغاير لم تعرفه الخبرة المصرية وفد إلينا من الخارج، وتبني بعض من اتجاهات الإسلام في الداخل لفتاوى حول بناء الكنائس غير إيجابية،كل ذلك ساهم في أن يصبح بناء الكنائس معضلة.
خلاصة القول، في ضوء الخبرة التاريخية... والحق التاريخي للمصريين من المسيحيين الغير وافدين من الخارج...ووفق فقه مصري تاريخي معتبر... واجتهادات معاصرة متميزة... هناك حاجة إلى قانون منظم لبناء دور العبادة في ضوء المادة 46 من الدستور بتوافق وطني عام على قاعدة المواطنة... وبجهد ثقافي يؤكد على قيم الحقوق المدنية لكل المصريين...أخذا في الاعتبار أن مصر مركب حضاري متعدد العناصر لا تصبح مصر مصرا بدونه،وبناء الكنائس وغيرها من المظاهر التي يجب على المصريين المحافظة عليها، بغض النظر عن الأوزان النسبية لمكونات هذا المركب الحضاري،فالتعددية الحضارية هي التي تعطي معنى للذات،وأنه لا يكون موجودا إلا بالآخر...