عكست ردود الفعل الرسمية على ما جاء في تقرير البرلمان الاوروبي حول سجل حقوق الإنسان في مصر (نشرت جريدة البديل نص التقرير في 19 يناير الماضي) أن هناك إشكالية واضحة في التعامل مع هذه النوعية من التقارير..وقد تناول كثير من الزملاء جوانب عدة حول هذا الموضوع
..بيد أن ما يلفت النظر ويهمني إلقاء الضوء عليه هو رد الفعل الذي يدل على عدم إدراك المستجدات التي طرأت على المنظومة الأوروبية مؤخرا...وعليه شكلت استخدامنا لآليات في الرد لا تتناسب مع هذه المستجدات...كيف؟
رد فعل في غير سياق
من الآليات التي أستخدمت لحصار وتطويق التقرير(بغض النظر عن الحدة والصوت العالي وكلام الانسحاب والرفض) هو محاولة استقطاب السفراء الأوروبيون كل واحد على حدة لإستخلاص مواقف مؤيدة لمصر ومعارضة للتقرير،ظنا أن هذا يخلخل الموقف الاوروبي...بيد أن السفراء الأوروبيين وقفوا موقفا واحدا من حيث تبني ما جاء في التقرير،بإعتباره يصدر أولا من جهة أوروبية معتمدة هي البرلمان الأوروبي. وثانيا لأن هذه الجهة من ضمن المؤسسات المشتركة التي تعبر عن أوروبا الموحدة. ولاي مكن أن تنتهي مؤسسة من هذه المؤسسات إلى موقف معين من دون حصول موافقة جماعية عليه كدولة واحدة،نعم قد تكون هناك خلافات في الداخل حول أمر من الأمور،بيد أن القرارات والتقارير الصادرة لن تخرج إلا بموافقة الجميع،تعبيرا عن أوروبا الموحدة.
لذا فالمراجع لنص التقرير في بندبه الأخيرين يقرأ التالي:
• يطالب الاتحاد الاوروبي بوضع التطورات في قضية حقوق الغنسان في مقدمة جدول أعمال اللقاء المصري ـ الأوروبي المقبل.ويطلب من المجلس الأوروبي تقديم تقرير حول الموضوع وأن يشترك في عملية التقويم.
• يرسل رئيس البرلمان الأوروبي نسخة من هذا القرار إلى المجلس والمفوضية الأوروبيين وإلى حكومة مصر ورئيسها ، والحكومات الموقعة على معاهدة برشلونة.
ماذا يعني ما سبق...بداية وهذا ما شرحناه في مقالينا المنشورين في جريدة البديل عن معاهدة برشلونة(26/12و2/1/ 2008) التي وقعت في ديسمبر الماضي، وما الذي يترتب على هذا التوقيع عمليا على أرض الواقع. لقد باتت هذه المعاهدة هي المرجعية العليا للدول الأوروبية الموقعة عليه وينبغي التعامل معها ليس بإعتبارها وثيقة تكاملية أو معاهدة للشراكة بين الدول الأوروبية أو ما شابه ذلك..بل إنها وثيقة دستورية تجعل من الدول الاوروبية دولة موحدة وهو ما يترتب عليه تبني استراتيجيات وسياسات ومواقف واحدة. وهذه الدولة الموحدة لها مؤسساتها المعبرة عنها، وما يصدر عنها من نصوص وتقارير طالما حظي بإجماع البرلمان الأوروبي فإن هذا يعني أن البرلمانت المحلية الخاصة بكل دولة لا اعتراض لها بحسب معاهدة برشلونة. إذن نحن أمام موقف جديد لا يمكن التعامل معه بآليات قديمة.. فأوروبا الموحدة ليست أوروبا ما قبل معاهدة برشلونة وهناك نصوص وقوانين ولوائح تشرح الهياكل المؤسسية الأوروبية وكيفية عملها وآليات استصدار القرارات وفي أي نقطة بالضبط الإجتهاد في الضغط لمنع أو تخفيف القرار. بيد أن رد الفعل المصري يبدو لي أنه يتعامل مع أوروبا ما قبل برشلونة.
يشار أيضا إلى أن ردود الفعل وبخاصة التي عبرت عنها البيانات الرسمية لم تأخذ في الإعتبار توقيع مصر على اتفاقيات مع أوروبا من خلال الإتحاد الاوروبي تنص على إحترام حقوق الإنسان والعملية الديمقراطية من جهة،كما تتيح هذه الغتفاقيات إتخاذ إجراءات ملائمة عند اللزوم من جهة أخرى. وتدخل في هذا الإطار إتفاقيات إقتصادية وهو أمر ينبغي مراعاته ويحتاج إلى جهد مكثف لتلافي آثاره إذا ما بقيت أوضاع حقوق الإنسان كما هي بحسب تقرير البرلمان الأوروبي. وفي هذا السياق لابد من فهم ما إذا كانت هناك هياكل جديدة تم استحداثها في هذا المقام وفق معاهدة لشبونة أم لا.
رد فعل متأخر
واقع الحال أن تقرير البرلمان الأوروبي كما وجه النظر إلى ضرورة الإهتمام بأوضاع حقوق الإنسان في مصر...فإنه وجه النظر أيضا إلى التعاطي الروتيني مع العالم وعدم إدراك المستجدات ما يعكس عدم إطلاع جدي ودقيق لما يترتب على هذه المستجدات. وبالمناسبة نذكر القارىء الكريم برد الفعل الرسمي المصري على التقرير الأمريكي للحرية الدينية حول العالم الذي صدر في سبتمبر الماضي(وهو موضوع درسناه تفصيلا منذ كان القانون الذي بموجبه يصدر عنه تقريرين سنويين محل نقاش أي منذ سنة 1996،صدر القانون في أكتوبر 1998ـ وعرضنا له تفصيلا في كتابنا الحماية والعقاب)،فعلى الرغم من أن هذا التقرير يصدر بشكل دوري منذ العام 1998،بإلاضافة إلى تقرير آخر(أحدهما عن وزارة الخارجية يعلنه السفير المسئول عن الحرية الدينية في سبتمبر من كل عام والثاني عن لجنة الحرية الدينية في مايو من كل عام) فإن رد الفعل عكس غياب أي خلفية عن مسيرة هذه التقارير وتأثيرها من جانب،كما وضح عدم فهم طبيعة لجنة الحرية الدينية التي تم تشكيلها في ضوء القانون ومدى أهمية هذه اللجنة التي قابلها البعض وهو يظن أنها لجنة برلمانية، وقابلها البعض الآخر وهو يظن أنها لجنة حكومية..ونفي عنها أحدهم تدخلها في شئون الدول..وبعدها عن السياسة، وأنها لا تملك صلاحية العقوبة..وطبيعة علاقتها بوزارة الخارجية الأمريكية من جانب ثاني،كذلك ـ وهنا المفارقة ـ أن هناك تقارير صدرت قبل ذلك كانت تتضمن نصوصا أخطر مما تضمنها التقرير الأخير الذي أثار رد الفعل،هذا بالإضافة ـ وهنا مفارقة أخرىـ أن تقرير هذا العام قد اعتمد في كثير من المعلومات التي ذكرها حول الوقائع المتعددة على ما جاء في الإعلام المصري...
صفوة القول، إن ما يهمني إلقاء الضوء عليه ، أن ردود الفعل هذه تعكس،إلى جانب ما تتضمنه التقارير من قضايا حيوية،إلى أي مدى هناك عدم مواكبة للجديد في العالم وعدم فهم دقيق لطبيعة ما يصدر من نصوص وتقارير وما يترتب عليها من تداعيات ومن ثم كيفية التعاطي معها بالوسائل والآليات المناسبة،وهو أمر يؤكد مدى تراجع الاداء السياسي و المهني المطلوبين في هذا المقام.