حارة نجيب محفوظ: الفساد.. وقانونه.. والذاكرة الضائعة

حارة نجيب محفوظ هي المكان الأثير لديه.. هي حارة فيها كل ما نشاهد من تفاعلات في حياتنا اليومية وكيف ستؤثرعلى مستقبل الحارة..إنها حارة تضم كل عناصر معادلة الحياة المصرية..شيخ الحارة والتاجر وإمام الجامع والمهني..إنها الزمن الممتد فتجد فيها الماضي والحاضر والمستقبل في تقاطع مبدع ..كل ذلك يتم التعبير عنه في عبارات مكثفة وبسيطة وعميقة في آن

... وفي لحظة "يتكلم فيها الكل ولا أحد يسمع "ربما تكون قراءة الأدب،أكثر فائدة لانها تسمح بقدر من التأمل وتفهم مشهد الحارة..

(1)

في المجموعة القصصية "صدى النسيان" لنجيب محفوظ (صدرت في العام 1999)،أي قبل عشر سنوات،نقرأ كيف رأى أديبنا مستقبل الحارة..فهاهوأبو عبده(في قصة الهتاف) يعود إلى الحارة وبالرغم من طلاء الأبهة والعباءة والعمامة والعصا والمركوب،فقد عرفه كثيرون..وسرى الخبر في الحارة..فلقد راحت خرابة تتحول إلى سراي لينزل به ذلك الرجل الذي غادر الحارة إلى أطراف الحي وجمع ثروة ضخمة من أحط السبل ".. ولهف أبو عبده مع إعداد السراي ليبدأ ممارسة سيادته ..ولم يعن أحد بالنظر إليه..ولما حاول شيخ الحارة أن يلفت نظره إلى ابتعاد الناس عنه.. فطمأنه أنه سوف ينجح في كيف ينوه الناس عنه وعن مشروعاته وأعماله الخيرية..وسوف ينضم إليهم شيخ الحارة نفسه..وبدأ يغازل الناس بالمال الذي لا يراه أهل الحارة إلا كل حين ومين..وهنا همس شيخ الحارة في أذن الإمام:
"أذكر هذه اللحظة التعسة فقد تكون بدء تاريخ طويل
من الفساد في حارتنا الطيبة"..
قال هذا وهو لا يهمه نوايا أبو عبده فكل ما يهمه هو:
" الأمن العام".. !!!
إفساد نعم ولكن دون خلل بالأمن العام...
ولا يصح أن يزعزع أي شىء أمن الحارة (في قصة تحت العمامة عريس)...

(2)

 

مر الوقت على الحارة..وانشغل الجميع بالبيع والشراء والضحك والحزن والصخب.وبدت ناسية تماما لعهد البطولة والأبطال..ترى هل ضاعت التضحية هباء؟
كان هذا السؤال هو ما يشغل بطلنا (حافظ) الذي دفع ثمن بطولته من عمره ، وعاد إلى الحارة حيث استقرت عينه حائرة على لافتة في أعلى وكالة كبيرة كتب عليها "الرمامي وأولاده"...
وراح يتذكر القدر وهو يلعب بالبطولة والخيانة ويوزع الأبطال والخونة
ما بين السجون والمتاجر...
بيد أن شيخ الحارة أخذ ينصحه بأن يعمل "فالسوق يسع "الجميع. وينبغي ألا يعود إلى تلك الأوصاف ..وألا يتذكر ثانية الأبطال والخونة،لأن الامور نسبية..ولأن القانون لن يسمح بغير ذلك..
رد عليه حافظ:
هذه الوكالة فتحت بالمال المدفوع ثمنا لخيانتنا،فكانت الوكالة في ناحية والسجن والمشنقة في الناحية الاخرى ،فهل ترضيك هذه القسمة؟
فقال شيخ الحارة بحسم:
يرضيني ما أجد القانون عنه راضيا..
قانون الحارة الجديد هو قانون السوق..فلا مكان للذاكرة..ولا مكان للأبطال ..

(3)

في نفس الحارة( قصة الأرض) يتناول الكاتب واقعة حدوث زلزال مفاجىء للحارة..مدته لم تتعد 30 ثانية ولكنها كانت كافية لكي تفصل بين مشهدين متناقضين..مشهد كانت فيه الحارة هادئة وآمنة وأهلها خاملون ،ومشهد انفجر فيه الرعب من الأعماق واجتاح القلوب وغدر بالآمال فلم يبق إلا المجهول فمادت الأرض ورقصت رقصة الموت...فلقد اختلطت الأصوات أيما إختلاط...ولم يجد شيخ الحارة إلأا أن يقول :وحدوا الله ..في يومنا هذا يمتحن الله عباده..
فجاءته الأصوات :أهلي تحت الأنقاض،نريد رجال الإنقاذ،...وتكاثرت المطالب...
فصاح شيخ الحارة:
أبلغت السلطة وطلبت اللازم. لابد من الصبر لأن الطلبات كثيرة..
ألا نسمع هذه الردود في واقعنا كثيرا..ويطالبنا أهل السلطة بأن نتعاون ماأمكنا وأن نعتمد على الله وعلى أنفسنا حتى يجىء الفرج..تماما مثل ما طالب شيخ الحارة أهلها .
في غمضة عين انكشف كل شىء...

هذه هي الحارة التي رسم بعض من ملامحها نجيب محفوظ منذ سنوات..هل من فرصة لرفض الفساد والإفساد وإعمال القانون غير المنحاز وإحياء ذاكرتنا التاريخية لنعرف من نحن وماذا نريد...
سيجىء الفرج بلا دليل..قطعا...يوما...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern