في احتفال بسيط أقيم بدير جيرونيمو العريق في لشبونة بالبرتغال..وعلى خلفية موسيقى تعبر عن التراث الموسيقي الأوروبي..تم توقيع معاهدة لشبونة(بالأمس وقت كتابة المقال)،وهي الوثيقة التي ستأخذ أوروبا إلى القرن الواحد العشرين بحسب ما جاء في عنوانها..إنه حدث تاريخي بكل المعايير لا يقل عن توقيع معاهدة وستفاليا التي وقعت في عام 1648 التي يفصلها عن المعاهدة الحالية 360 عاما ...فما العلاقة بين الوثيقتين..وما أهمية هذه الوثيقة الحالية التي ستكون جاهزة للتفعيل في يناير 2009 بعد أن تقرها أيرلندا الدولة التي سوف تعود إلى برلمانها في 2008 للموافقة عليها..وعليه يكون العام 2008 هو العام الذي سيشهد إقرار أوروبا بكامل دولها الأعضاء بالعمل بمعاهدة لشبونة.. سوف نتناول أهمية هذه الوثيقة في هذا المقال..ونلقي الضوء على مفهوم المواطنة القائم على الاندماج حسبما جاء في المعاهدة في مقالنا القادم..
دول قومية في إطار قاري جامع
بداية، تعد هذه الوثيقة البديل الذي تم التوافق عليه لما كان يعرف في السنوات الأخيرة بالدستور الأوروبي والذي كان يتضمن بنودا محل خلاف بين عدد من الدول الأوروبية. بيد أنه منذ اجتماع الإتحاد الأوروبي الذي عقد في ديسمبر الماضي(2006)،أخذت السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا على عاتقها أن تستثمر رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي لاستصدار وثيقة مرجعية تكون مقبولة من جميع الدول الأعضاء،والمزمع ضمهم،في الاتحاد الأوروبي. فالقلق الذي أبدته كلا من فرنسا وهولندا في العام 2005 حول الدستور المقترح آنذاك، لابد من مراعاته من جهة، والاستمرار في توحيد أوروبا بكل الطرق من أجل المصالح البعيدة المدى للقارة الأوروبية من جهة أخرى. وخلال هذا العام تم حل كل الإشكاليات التي كانت محل خلاف وخرجت إلى النور وثيقة لشبونة التي توافقت عليها 27 دولة أوروبية..إنها لا تقل أهمية عن وستفاليا..كيف؟
إذا كانت أوروبا قد استطاعت أن تتجاوز "حالة الطبيعة"،بحسب هوبز،(في القرن 17) حيث" الإنسان يعيش في حالة أولية سابقة على ظهور المجتمع،وهي حالة من الفطرة من حيث الدوافع والمواقف وردود الفعل ،فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان.وعليه فانه لا توجد بالتالي معايير وضوابط،أو بلغة أخرى قوانين..وعليه تكون الحرب هي السبيل الوحيد بين الدول وبعضها وهذا ما شهدته أوروبا في القرن السابع عشر،وتم تجاوزه بمعاهدة وستفاليا...فإن الأوروبيين قد أثبتوا،من خلال معاهدة لشبونة،إنهم قادرون على تجاوز ما تعرضت له شرعية وستفاليا من تفكيك للكيانات القومية. فعلى الرغم من أن صيغة الدولة ـ الأمة هي الصيغة التي سادت في أوروبا بموجب شرعية وستفاليا(1648)،فان هذا لم يمنع من أن تقبل الصيغة الأوروبية تفكك الكيانات المتعددة القوميات مثل الاتحاد السوفيتي،ويوغوسلافيا،وتشيكوسلوفاكيا.. بيد أن القارة الأوروبية أبدت قدرة ذاتية على إعادة اندماج الدول الوليدة في إتحادات قارية وإقليمية:إقتصادية وجمركية وسياسية وثقافية،الأمر الذي ساعد على علاج الترنح الذي طال الأسس القومية للدولة والتفكك الذي أصاب الدول الاتحادية..وهنا تأتي أهمية معاهدة لشبونة..
بلغة أخرى،من ناحية أوقفت معاهدة وستفاليا النزاعات القائمة على أسس مذهبية و عرقية في لحظة تاريخية معينة،وأسست لميلاد الدول القومية في أوروبا مؤسسة لمبدأين هما:
• مبدأ السيادة، حيث يتم الاعتراف بسلطة الدولة الوحيدة والمطلقة داخل حدودها. فالسيادة الإقليمية أصبحت أساسا للنظام الجديد واعترافا بالشخصية الدولية لعدد كبير من الأمم.وواكب ذلك نشوء مفهوم السيادة الوطنية للدولة واحترام السيادة الوطنية للدول الأخرى داخل النظام الإقليمي.
• مبدأ المساواة،حيث أكدت المعاهدة على المساواة القانونية بين جميع الدول المستقلة التي تتمتع بالسيادة دون النظر إلى عدد السكان أو مساحة الدولة أو ثرواتها أو تنوعها المذهبي أو الإثني.
ومن ناحية أخرى،أكدت معاهدة لشبونة على مرجعية الدولة القومية وسيادتها،في صورتها التاريخية،مع قبولها لأن تكون للدول الوليدة حضورها القومي في إطار قاري جامع من واقع التراث الثقافي والديني والإنساني المشترك للقارة الأوروبية القائم على الحقوق الأصيلة للشخص الإنساني من حرية وديمقراطية ومساواة وحكم القانون،كما جاء في المادة الأولى للمعاهدة. كما تراعي المعاهدة حقوق الأشخاص الذين ينتمون للأقليات،وتؤكد على أن القيم الأساسية التي وردت سابقا سوف تكون قيما مشتركة لكل أعضاء المجتمع الأوروبي حيث التعددية، وعدم التمييز،والتسامح،والعدالة والتضامن،والمساواة النوعية.
التضامن فعلا لا قولا
أكدت المعاهدة على أهمية التضامن بين مواطني دول أوروبا، وأن هذا التضامن كي يكون حقيقة، لابد له من درجة انتماء عالية إلى أوروبا الموحدة..وقد أدرك القائمون على بناء هذه الوحدة أو الرابطة الأوروبية، أن الشعور بالانتماء والإحساس بالمصير المشترك لا يمكن أن يكون صناعيا أو إنشائيا من خلال عبارات نصوصية في الوثائق أو شعارات ،وإنما يتم هذا بعمل دءوب قاعدي ومؤسسي،وتحديدا في مجالي الثقافة والتعليم.وفي نفس الوقت بإعمال التعاون المشترك في شتى المجالات،والتكامل الاقتصادي وبالأخص في مجال الطاقة،والمواجهة المشتركة لأي خطر يواجه القارة الأوروبية،ومساعدة أي دولة عضو تتعرض لأي كارثة من أي نوع،ويشار إلى تكرار المعاهدة لتعبيرات من عينة:الدعم Supporting ،التنسيق Coordinating،الإجراء التكاملي Complementary Action
ودخولها في كثير من التفاصيل في هذا المقام تجعل من المبادئ واقعا ماديا ملموسا.
ومن أهم ما أكدت عليه المعاهدة، فكرة أساسية تكررت أكثر من مرة ألا وهي حرية التحرك للمواطن الأوروبي – لاحظ عزيزي القارئ تعبير المواطن الأوروبي- في أرجاء دول القارة الأوروبية،هذه الحرية تتجاوز حرية الحركة إلى ماهو يؤكد الرابطة بين دول القارة،وأنه بات من الممكن ممارسة مواطنة عابرة للحدود بكل أبعادها. وفي نفس الوقت ترك الباب مفتوحا للانسحاب الاختياري لأي دولة في أي وقت،بيد أن المميزات التي تضمنتها المعاهدة من تبادل ثقافي واستفادة إقتصادية وحماية قارية..الخ،تجعل هذا الأمر بعيدا...لقد نجحت المعاهدة في ابتكار آليات اندماجية تجعل من المواطن الأوربي حقيقة...وهو ما سوف نتحدث عنه في مقالنا القادم:"أوروبا..المواطنة والاندماج"، حيث نطالع وثيقة الحقوق الأساسية للمواطن الأوروبي.