مستشارو الرئيس..الأمريكي

في دراسة شيقة حول توجيه السياسة الخارجية الأمريكية،يرصد لنا ألكسندر جورج أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ستاتفورد ،ثلاثة نماذج لإدارة هذه السياسة اتخذها الرؤساء الأمريكيون خلال فترة زمنية معينة..فما هي هذه النماذج وأثر كل منها على نجاح السياسة الخارجية من عدمه؟

يقول ألكسندر جورج،يمكن رصد ثلاثة نماذج لإدارة السياسة الخارجية ميزت أداء الرؤساء الأمريكيين من فرانكلين إلى ريجان..هذه النماذج هي:"الشكلية"،و"التنافسية"،والأكاديمية".
يقصد بالنموذج الشكلي؛ هو ذلك النموذج الذي يتبع نظام التسلسل الوظيفي،ويعتمد تركيبة منتظمة سياسيا أي بتركيبة تقدم إجراءات محددة بدقة وبخطوط اتصال هرمية. وإذا كان النمط الشكلي يسعى إلى الإفادة من الآراء والأحكام المتباينة من المشاركين في عملية اتخاذ القرار السياسي فهو أيضا يحد من الصراع والمساومة التي قد تنشأ بينهم.
أما النموذج التنافسي؛ فعلى النقيض من ذلك، حيث يشجع على أن يعبر أعضاء الفريق المنوط به تشكيل السياسة الخارجية عن نفسه أو ما يعرف بفكرة "التعبير المفتوح" والمعلن عن مختلف الآراء والرؤى والنصائح.لذا لا يمانع أن تتعدد قنوات الاتصال وأن يجتهد كل طرف في توفير أكبر قدر من المعلومات.
أما ثالث النماذج هو النموذج الأكاديمي؛ الذي يسعى بدوره إلى تحقيق المزايا الجوهرية للنموذجين الأولين.ومن خلاله يحاول الرئيس أن يكون فريقا من أعضاء هيئة موظفيه ومستشاريه ليعملوا معا على تحديد المشكلات السياسية وتحليل عناصرها وحلها بسبل توفق بين وجهات النظر المتباينة قدر الإمكان. ويهدف هذا النوع إلى الإفادة من التنوع والتنافس داخل نظام اتخاذ القرار السياسي، وتفادي البيروقراطية في التعامل مع القضايا السياسية.كما يدمج بين الأكاديميين والسياسيين وحثهم على العمل معا لحل المشكلات.

 

ويطبق لنا الباحث في دراسته النماذج الثلاثة على رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبين من فرانكلين روزفلت على رونالد ريجان مرورا بترومان وأيزنهاور وكينيدي وجونسون ونيكسون وكارتر. وبالطبع لا يستبعد الباحث دور العامل الشخصي في اختيار الرئيس للأسلوب الأمثل لإدارته للسياسة الخارجية . فقدرة الرئيس الذهنية من حيث إدراكه لما يحدث من أحداث وتفسيره وقدرته على متابعة الجديد وتطوير مفرداته ودلالات ما يحدث بالإضافة إلى ما يحمل من قدرات قيادية تلعب دورا كبيرا في إتباع أحد الأساليب التي تم رصدها من قبل الباحث. فأحيانا تكون لدى الرئيس فكرة معينة حول أمر من الأمور ربما تكون صحيحة وقت تكونها ولكن هذه الفكرة قد تحمل دلالة مختلفة مع تغير الوقت وتبدل اللاعبين المشاركين..وهكذا. فليس بالضرورة نجاح أحد الرؤساء في التعامل مع قضية من القضايا في لحظة تاريخية معينة يعني أن يتكرر التعامل معها بنفس المنطق والآليات، فاختلاف الزمن والأشخاص والسياق العالمي يعني أن يختلف التعامل،أما استدعاء أفكار وممارسات من زمن فات لتطبيقها في واقع جديد يؤدي إلى كارثة محققة.
في هذا السياق،يستعرض لنا الباحث الفرو قات الدقيقة بين رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة البحث،ويشير إلى أن كفاءة القرار السياسي للرئيس جون كينيدي قد فاقت إيزنهاور من قبله ونيكسون من بعده،بسبب الأخذ بالأسلوب الأكاديمي من جهة وللسمات الشخصية من جهة أخرى. فلقد مال كينيدي إلى أن القرار السياسي يجب أن يقوم على العمل الجماعي والمسئولية المشتركة بين المستشارين الموهوبين. وكان دائم التفادي من مخاطر السياسة البيروقراطية، وحريصا على عدم المجازفة بإدخال الفوضى والنزاع في نظام اتخاذ القرار السياسي.كما نوع مع معاونيه في استراتيجيات انسياب المعلومات،وكان يميل إلى التعاطي مع الملفات المختلفة في وقت مبكر..فهناك فرق بين أن تكون مبادرا بالأفكار وبتقديم الاختيارات وطرح البدائل على الآخرين وبين أن تكون في الموقف العكسي أي مضطرا أن تقبل بما يقدم إليك أو تختار ما لا يروق لك. وفي هذا المقام تعتبر الأدبيات الأمريكية في العلوم السياسية إدارة الرئيس الأمريكي جون كينيدي لأزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962،نموذجية من حيث أخذه بالنموذج الأكاديمي،لتمييزه عن كل من النظام الأشد تنافسية والنظام الرسمي الشكلي الذي أتبعه أسلافه،كما توضح هذه الأدبيات على التناقض الحاد بين النمط الأكاديمي الذي أخذ به كينيدي والنموذجين التنافسي والشكلي.
وتوضح لنا الدراسة الكثير من التفاصيل الدقيقة حول أساليب إدارة السياسة الخارجية الأمريكية،وتكشف أنه على الرغم من أن ريجان قد بقي في الحكم لفترتين وأنه في عهده قد حقق مكاسب إستراتيجية إلا أن إدارته للسياسة الخارجية لم تكن على الكفاءة المطلوبة ويفند هذا الأمر تفصيلا. والإيجابي في هذه الدراسة هو إخضاع كل شيء من ظواهر ومفاهيم وبنى ومؤسسات وشخصيات للتحليل العلمي والتأصيل النظري والخروج بمؤشرات يمكن أن تتبع وأن يقاس عليها كما تفتح أفقا للآخرين للنقد والتصويب والاستثارة الذهنية الخلاقة...من دون حساسيات أو حسابات...هكذا في كل تفصيلة من تفاصيل كل مجال من مجالات الحياة نجد البحث والدراسة والتقييم..الرئيس والسياسة الخارجية وكيف يستشير وتقييم كل موقف من المواقف التي تم اتخاذها...هكذا تتقدم المجتمعات وتبقي على حيويتها...وما لم تأخذه هذه الدراسة في اعتبارها سوف نجده مدركا في دراسة أخرى...لذا أثني على قراءة هذه الدراسة ودراسات أخرى يضمها مجلد واحد بعنوان السياسة الخارجية الأمريكية ومصادرها الداخلية لتشارلز كيجلي ويوجين ويتكوف والذي ترجمه عبد الوهاب علوب ضمن المشروع القومي للترجمة،فالمجلد يمثل مرجعا هاما حول السياسة الخارجية الأمريكية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern