...التاريخ بين التحيز والانتقاء والاختزال و التوظيف السياسي

إن أي باحث في التاريخ، سيجد حتما أن التاريخ ما هو إلا سلسلة متواصلة الحلقات، كل حلقة تاريخية هي نتاج طبيعي لسلسلة من التفاعلات الموضوعية التي تتفاعل فيما بينها، وتكون الحلقة التاريخية هي النتاج الطبيعي لهذه التفاعلات..وبقدر ما تكون عناصر هذه التفاعلات ثرية، بقدر ما تكون الحلقة التاريخية ناهضة ومتقدمة...

التاريخ علم

يتفق فلاسفة التاريخ باختلاف توجهاتهم على أن التاريخ علم،من هؤلاءـ توينبي،وجوردون شايلد،وكولينجوود،وماركس،وابن خلدون،ومالك بن نبي،وموريس كروزيه الذي أشرف على موسوعة تاريخ الحضارات العام،إيمانويل والرشتاين،وغيرهم ــ.فالتطور التاريخي لأي مجتمع هو:
* محصلة عمليات الابتكار والاختيار الواعي بضرورة مواجهة مشاكل الواقع
ومن ثم حدوث التقدم في لحظة تاريخية معينة،في ضوء المعطيات المتاحة.
ويحدث الاختلاف في درجة ومدى التقدم بين تجارب البلدان المختلفة من جهة،وإيقاع التقدم في إطار تجربة البلد الواحد من جهة أخرى،بحسب القدرة على التعاطي الكفء مع الواقع ومدى الوعي به والرغبة على تغييره. ويؤكد كل من تصدى لهذه القضايا على أن البشر لا يختلفون فيما بينهم من حيث التكوين التشريحي،وإنهم متطابقون تماما،أو بلغة أخرى،المصري مثل الصيني مثل الهندي..بيد أن الاختلاف يكمن في الأخذ بالابتكار واتخاذ القرارات الحاسمة والتأثير في البنية الاجتماعية القائمة ومن ثم حدوث التقدم. أي الانتقال بالمجتمع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أرقى.و يكون التقدم بهذا المعنى هو في حقيقته القدرة على تكوين النموذج الوطني الذاتي،أو محاولة ذلك.وتصبح المهام الأساسية للشعوب بما تضم من نشطاء وباحثين ومعنيين:
• إحداث التراكم على ما تم إنجازه مهما كانت درجته،
• والدفاع العقلاني الموضوعي عن أية محاولات تريد التقليل من هذه الانجازات أو توظيفها سياسيا في صراعات آنية،
• وعدم اختزال أي انجاز في بعض مظاهره والتأسيس على ذلك بما يخدم مصالح حاضرة،
• إدراك الإنجاز – مهما كان حجمه- الذي تمت إضافته في كل مرحلة تاريخية بغير مبالغة أو انتقاص، أو التعامل مع قشور كل مرحلة دون التعمق فيها رأسيا..أو إعمال الانطباع في تقييم الأشخاص حيث الأخذ بالمظهر الخارجي دون عمق الشخصية.
بلغة أخرى يتفق فلاسفة التاريخ على أهمية أن كل جيل جديد- مجتمع بعينه- عليه تلقف نتاجات من سبقوه من ابتكارات مادية وفكرية ووقائع تاريخية ساهمت في تقدم المجتمع أو على الأقل كانت معلم لا يمكن إسقاطه من الذاكرة التاريخية.. واستخدام هذه الحصيلة كمادة خام في عملية ابتكار جديدة، بغير تقديس أو تسطيح، هذا هو "التراكم، وهذا هو ما تم في كل حالات التقدم التي شاهدناها وقرأنا عنها..فمن غير المعقول أنه ومن أجل أهداف آنية أن يتم التسفيه من مراحل تاريخية هامة في حياة وطننا،واختزال نضالات الناس عبر مدى زمني في مظهر وحيد لأن ذلك يخدم توجهات حاضرة،هذا ناهيك عن غياب الإطار العلمي في تقييم التاريخ.

 

 

التاريخ ومنهج" المونتاج" السينمائي

للباحث الألماني "يان أسمن" كتابا بعنوان "الذاكرة الحضارية :الكتابة والذكرى والهوية السياسية(الصادر عن المشروع القومي للترجمة،ترجمة عبد الحليم عبد الغني رجب)،يشير إلى ما أسماه "الذاكرة المونتاج"،ويقصد بها إعادة تركيب التاريخ أو الذاكرة التاريخية الجماعية للأمة بمنطق ما يعرف في فن وصناعة السينما بالمونتاج السينمائي،حيث يتم:
• قص الواقعة التاريخية من سياقها الذي حدثت فيه، و إعادة تفسير واقعة أو أفعال أحد الشخصيات التاريخية بمعزل عن الظرف التاريخي الذي وقعت فيه الواقعة أو سلكت فيه هذه الشخصيات أفعالها، بما يتفق ويحقق نية المفسر ويدعم وجهة نظره الآنية.وفي هذا المقام تستبعد المراجع المعتبرة،والاجتهادات المتميزة،والمعالجات المتعددة..ويبدو لي خطورة إعطاء الظهر للاجتهادات السابقة والبناء عليها وتطويرها،وإخضاعها للنقد والتحليل ومن ثم التراكم عليها..ولكن أن نسقطها عمدا من الذاكرة فإن هذا يثير الكثير من التساؤلات حول النوايا الخفية من وراء ذلك.
والمتابع للخريطة السياسية والفكرية المصرية سوف يجد كيف يحاول كل تيار أن تكون له ذاكرة تاريخية خاصة به،تؤكد جدارته دون غيره،كما تعينه في سجالا ته السياسية الآنية. وهكذا بدلا من أن تكون هناك ذاكرة وطنية تحظى بحد أدنى من الاتفاق الوطني نجد "رؤى/ذاكرات" متعددة قد تكون:
* متجاورة / متنافسة / نافية لبعضها البعض..
وهكذا يصبح سعد زغلول الخارج من عباءة الإمام محمد عبده علمانيا متغربنا لدى البعض وزعيما وطنيا عند البعض الآخر،وعبد الناصر إسلاميا لدى فريق وكافرا لدى فريق آخر...وهكذا يتم تقييم الشخصيات التاريخية المصرية بمنطق حدي وسطحي،ما بالنا بمرحلة تاريخية مكتملة...إنها كارثة بكل المقاييس..لماذا؟

التحليل الموضوعي أو" التشظي" الثقافي

لو أخذنا ثورة 1919 نموذجا سوف نجد جماعة الإخوان المسلمين على لسان الأستاذ حسن البنا يقول عنها"عقوبة إلهية على المصريين"(راجع كتاب حديث الثلاثاء)،ويراها البعض إنها حركة غوغائية، ولا يرى البعض فيها سوى إنها حركة دينية،أو أن ما روي عنها أساطير... وهكذا.
في هذا السياق لا نجد أي رجوع لأي من المراجع المعتبرة التي تناولت هذا الموضوع للتدليل على رؤية كل فريق...وللتذكير فقط بهذه المراجع:نهضة مصر لأنور عبد الملك،دراسات في تاريخ مصر لفوزي جرجس،المسلمون والأقباط لطارق البشري،الدولة المركزية في مصر لنزيه نصيف الأيوبي،الأقباط والقومية العربية لأبوسيف يوسف...وسوف أشير في عجالة لاجتهاد متميز حول ثورة 1919 لمصطفى النحاس جبر والذي تناول الثورة في رسالتيه للماجستير والدكتوراه لعلها توسع زاوية الرؤية لهذا الموضوع كما يمكن تطبيق هذا المنهج على كثير من الأحداث والشخصيات.
يقول مصطفى النحاس جبر(في كتابه سياسة الاحتلال تجاه الحركة الوطنية من 1914- 1936،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1985)"أن ثورة1919 نقطة تحول كيفية في مسيرة الحركة الوطنية المصرية وذلك من زاويتين : الأولى : تعدد القوى الاجتماعية والسياسية المشاركة في الثورة والثانية : تحقق التكامل الوطني بين المسلمين والأقباط بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر . بالنسبة للزاوية الأولى ، نجد مصر قد شهدت تحركا جماهيريا شاملا من أجل الاستقلال ، الأمر الذي يعنى في تاريخ المجتمعات والشعوب المدخل لتكوين الجماعة السياسية الوطنية،فما التحرك الجماهيري إلا مدخل نحو بدء الانطلاق لتأسيس هذا التكوين تكوينا مصريا ومزج الأهالي في كيان سياسي واحد و إيجاد الصيغة الملائمة لتأكيد قوة التماسك بين الآهلين . وعليه لم يكن غريبا أن يعتبر الباحثون ثورة 1919 " ثورة نموذج" من حيث قدرتها على استيعاب القوى الاجتماعية المختلفة وطرحها شعارات التف حولها الناس مثلت تعبيرا حيا لحاجة طالما اشتاق لبلوغها المصريون.
إن تطور المجتمع المصري أبان الحرب العالمية الأولى قد كشف عن ظاهرتين أولاهما : الضغط الهائل وغير الطبيعي على جماهير الشعب المصري من الفلاحين الفقراء والمتوسطين إلى جماهير المدن من البروليتاريا والحرفيين وصغار التجار منضما إليهم جماهير المتعلمين والموظفين وصغار الضباط ، وبالتالي فإن التنافس كان حادا وعدائيا بين هذه الفئات وبين الإمبريالية المتمثلة في الاحتلال والحماية .
والظاهرة الثانية إن تطور البرجوازية المصرية أثناء الحرب وتوسعها إلى حد ما وزيادة ثروتها قد أدى إلى نمو وعيها وإحساسها بأهمية السوق الوطنية ، أو بتعبير آخر ، فأن مصر في العشرينيات لم يعد بالإمكان إخضاعها للأنظمة الإمبريالية لأن صناعتها الناشئة جعلتها في موقف المعادى للاتفاقيات التجارية الاستعمارية وهذا هو التنافس العدائي الثاني بين البرجوازية من جهة والاحتلال من جهة أخرى .
و أما الزاوية الثانية ، يمكن القول إن ثورة 1919 قد استطاعت أن تضع على بؤرة الحدث حركية جديدة مثلت ذروة فى العلاقة بين مكوني الجماعة الوطنية ، حيث اتجهت بها نحو تحقيق الاندماج الوطني الذي بات مثالا يقاس عليه وهو ما يؤكد عليه " أبو سيف يوسف " بقوله عن ثورة 1919 إنها ارتفعت بقضية التكامل الوطني – القومي بين المسلمين والقبط إلى مستوى لم تبلغه من قبل ، فقد استطاعت أن تبلور المواطنة من خلال الالتفاف القاعدي من جموع المصريين حولها، وهي التي أعطت للمواطنة مضمونًا جماهيريا اجتماعيًا."

بالطبع يمكن أن يتم التناول التاريخي بأكثر من منهج لاستخلاص نتائج جديدة أو إدراك الدروس المستفادة من الحدث،كما يمكن إعمال التقييم شريطة الأخذ بالعلم.فلا تصبح الذاكرة التاريخية بسبب السياسي والآني عامل فرقة وتشظي بدلا من أن تكون عامل تقدم. وعليه لابد من وضع ضوابط حاكمة لكيفية التناول التاريخي لا تخضع للأهواء ولا للتوظيف السياسي.

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern