معايير تحقق المواطنة بأبعادها في حياة المصريين

في إحدى الندوات،كان الحديث حول المواطنة يأخذ منحى سكونيا،فهناك من ربطها بوجود نصوص دستورية تضمنها..وهناك من ربطها بالولاء...بيد أن المواطنة أعقد من ذلك إنها تعبير عن نضال الناس، وإنها متعددة الأبعاد، وتبلورت عبر التاريخ، وليست حكرا على أناس بعينهم..إنها تعبير عن توق الناس إلى الأفضل...

المواطنة مركب متعدد الأبعاد

 

المواطنة – في الأدبيات المعتبرة- لا يمكن فهمها باعتبارها مفهوما سكونيا،وإنما من خلال الممارسة،لأنها تبلورت نتيجة حركة الناس و نضالهم من أجل اكتساب الحقوق. أي أن المواطنة لا تتكون بقرار فوقي، وإنما بالجهد المبذول من قبل الناس على أرض الواقع..ولذا لا يمكن فهم المواطنة بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي يتحرك فيه الناس بحثا عن المواطنة، كذلك بعيدا عن فهم موازين القوى الاجتماعية السائدة، وهيكل الدولة، والأيديولوجية المهيمنة، ونمط الإنتاج القائم، وبالبناء الطبقي الذي يميز مجتمع من المجتمعات في لحظة تاريخية معينة.

في ضوء ما سبق يكون الفهم للمواطنة متجاوزا الرؤية السكونية لها، إلى رؤية ترى المواطنة في سياق ديناميكي بفعل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي..وهي رؤية تحرر المواطنة بعض الشيء من القراءة الدستورية القانونية، كذلك الدلالة المعنوية التي تحصرها في مفهومي الولاء والانتماء.وعليه، وكون أن المواطنة هي نتاج لحركة الناس وترتبط بالسياق الاجتماعي ارتباطا وثيقا، فان المواطنة أخذت وقتا كي تتبلور من جهة، كما أن المواطنة لم تكتمل بأبعادها المتعددة مرة واحدة، وفي هذا المقام يعود الفضل إلى عالم الاجتماع البريطاني T.H.Marshall،في أنه ألقى الضوء على عناصر المواطنة: العنصر المدنيCivil Element ،العنصر السياسي Political Element،والعنصر الاجتماعي Social Element...

وأفاد هذا الجهد الرائد في أن يلقي الضوء على كيف تطورت المواطنة في الغرب من جهة،وكيف يمكن تتبع مدى تطور المواطنة في سياقات أخرى( في الحالة المصرية على سبيل المثال)،كذلك التعثرات التي تواجهها،وتبلور أحد عناصرها ،أو اختزال المواطنة في عنصر أو أكثر دون باقي العناصر..وهكذا..وقد ميز مارشال بين المساواة في المواطنة والمساواة قي الطبقة. فبلوغ المساواة الكاملة من خلال المواطنة، أي توفر العلاج الجيد – مثلا- لكل من الغني والفقير لا يعني المساواة بين الطبقات، بيد أن تحقق المساواة في العلاج والتعليم يعني تحقق المواطنة، والمساواة هنا تأتي من خلال جهد مبذول في هذا المقام.

لعل من المفيد أن نضع تعريفا إجرائيا للمواطنة في ضوء قراءة مسيرتها في الخبرتين الغربية والمصرية( المختبرة والتي لم يزل يناضل من أجلها المحكومين في بلداننا بعد)،لإدراك ثراء المفهوم وما يحمل من تجليات كذلك لوضع معايير يمكن القياس عليها في مدى تحقق المواطنة بالنسبة للمواطن المصري؛
• المواطنة هي تعبير عن " حركة "الإنسان اليومية...
مشاركا ومناضلا...
من أجل... حقوقه بأبعادها " المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية"...
على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب(اللون/ الجنس/العرق/الدين/المكانة/الثروة)...
واندماج هذا المواطن في" العملية الإنتاجية" ومن ثم "المجتمعية"...
بما يتيح له تقاسم الموارد في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين.

مراحل تكون أبعاد المواطنة

ارتبطت المواطنة بالتطور الاقتصادي الاجتماعي بالأساس،ويظهر ذلك جليا في الحالة الأوروبية،وبدرجة أقل – بالطبع - في الحالة المصرية،بيد أن مع كل محاولة للاقتراب من المواطنة سوف نجد إرهاصة لهذا التطور الاقتصادي الاجتماعي ـ ربما غير المكتمل أو المجهض ـ ومن ثم الاقتراب أو الابتعاد من المواطنة.

وبقراءة النماذج الكلاسيكية للديمقراطية:الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، سوف يجد أن بلوغ المواطنة كان حصيلة تطور استغرق مئات السنوات، وكان هذا التطور ثمرة حركة الناس من خلال أشكال عدة. والمشترك في هذه النماذج،سالفة الذكر،هو شعور الطبقات البرجوازية الصاعدة،من طبقة غير الإقطاعيين الذين اشتغلوا بالتجارة أولا ثم بالصناعة لأهمية التحرر من القيود الإقطاعية.فالملوك والإقطاعيون يمارسون ضدهم التعسف بشكل يعوق من فاعليتهم الاقتصادية ـ ويحط من مكانتهم الاجتماعية،وعدم إتاحة الفرصة لهم لأن يحظوا بأي نوع من المساواة،أو التعبير عن النفس،فبدءوا يعارضون هذا الوضع ويثورون عليه.

ويلاحظ العلاقة العضوية بين تبلور المواطنة في البداية،على أرض الواقع وبين الوضع الاقتصادي للأفراد ومدى ما يملكون،فالفرد الذي لا يملك شيئا ولا يدفع ضريبة ليس مواطنا،لذا لم يكن غريبا أن البعض قد طابق بين المواطن ودافع الضرائب،ومن ثم تأسيس المبدأ المعروف:لا ضريبة بدون تمثيل نيابي No Taxation Without Representation.

وهكذا بدأت المواطنة تتبلور تاريخيا من خلال حركة الناس لاكتساب الحقوق، وبلوغ المساواة بين الجميع من دون تمييز من جانب،وأن هذا التبلور كان يتم بمنطق المركب الذي تتكون عناصره مع التطور التاريخي من جانب آخر،وأن كل عنصر يعبر عن بعد من أبعاد المواطنة تتم إضافته للمركب بحسب حركة الناس وعلاقتها بالسياق التاريخي.
ويمكن رصد مراحل تكون أبعاد المواطنة كما يلي:

• بداية كان الاهتمام بتحقيق المساواة أمام القانون أي المواطنة المدنية Civic Citizenship.
• ثم عني بالتمثيل السياسي في المجالس النيابية فعرفت المواطنة في بعدها السياسي Political Citizenship .
• و مع التطور الاجتماعي والطبقي استوجب الأمر توفير الضمانات الاجتماعية أي المواطنة في بعديها المركب الاجتماعي – الاقتصاديSocio- Economic Citizenship.( يراجع بار بالات
• و مع أواخر القرن العشرين بدأ تنامي صعود الهويات الثقافية:الدينية والعرقية والجنسية بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية ،في هذا السياق طرح مفهوم المواطنة الثقافية Cultural Citizenship . (إضافة هامة لبرايان تيرنروقد اعتمدنا علي هذا المفهوم في دراستنا المعنونة الأقباط والخصوصية الثقافية‘كذلك يشار إلى نيك ستيفنسون في تطوير المفهوم).

معايير تحقق أبعاد المواطنة

أولا: المواطنة المدنية:

• حدود الحرية الفردية والشخصية وإشكالياتها.(حرمة المساكن، حرية الانتقال، حرمة الحياة الخاصة، حرمة الجسد، الحبس بدون سبب، ضمان حياة آمنة...)
• مساحات حرية التعبير ودرجة كفالتها.
• آفاق حرية الاعتقاد والملابسات المرافقة.
• الحق في المساواة القانونية.
• القناعة بجدوى القانون في أنه يمكن أن يوفر العدل.
• مدى قدرة المؤسسة القانونية على تحقيق العدل.(إعادة إنتاج اللامساواة).
• حدود الإبداع.
• حق توفر الدفاع أصالة أو بالكفالة لغير القادر ماليا.
• التشريعات والقوانين واللوائح وأين تصب.

ثانيا:المواطنة السياسية:

• مدى الإقبال على المشاركة السياسية بمستوياتها المتعددة.
• القيود والصعوبات حول المشاركة السياسية.
• الحق في تكوين الأحزاب.
• حرية التظاهر والتجمع والاحتجاج السلمي.
• الاستبعاد والتهميش السياسي القسري والمنظم:مظاهره وأسبابه.
• الانكفاء والعزوف السياسي:الدوافع والأشكال.
• طبيعة العلاقة بين الأفراد والدولة.
• حق المواطنين في المحاسبة والمساءلة وهل توجد آليات خاصة بذلك.
• مدى شفافية النظام السياسي.
• آليات صناعة القرار في المؤسسات المختلفة ودرجة مشاركة الناس.
• كفاءة المؤسسات التمثيلية على المحاسبة والمساءلة والتعبير عن مصالح من يمثلونهم.
• هل تعبر المؤسسات التمثيلية عن كل المواطنين.
• حدود السياسي والمدني وبين الديني في المجال السياسي.
• برامج التنشئة السياسية:اتجاهاتها ومضمونها.
• إدراك الفروق الدقيقة بين:التربية المدنية، وحقوق الإنسان، والمواطنة.

ثالثا: المواطنة الاقتصادية ـ الاجتماعية:

• مدى الإحساس بالأمان الاجتماعي.
• عدالة توزيع الأعباء بين المواطنين.
• المساواة بين من يملك ومن لا يملك في توفير خدمات صحية وتعليمية مناسبة.
• مدى توفر الضمانات الاجتماعية المتنوعة مثل:معاشات العجز عن العمل، والبطالة، والشيخوخة، الخ
• الخدمات النوعية والفئوية.
• مدى عدالة العلاقة بين المالك والمستأجر،
• مدي عدالة العلاقة بين صاحب العمل والعامل،وطبيعة الحقوق المكفولة واللوائح المعمول بها،والضوابط الحاكمة لهذه العلاقة(الأجور وهل تتناسب والجهد المبذول ومتطلبات الحياة، هل توجد ضمانات من الفصل التعسفي،..)
• مدى التوافق بين النظام الضريبي و ضمان منظومة الحقوق.
• نظام الإعالات والإعانات للمنكوبين والعاطلين..
• السياسات الاجتماعية وكيف توضع بما يضمن حقوق المواطنة.

 

رابعا:المواطنة الثقافية:

• إلى أي مدى تجد الهويات الثقافية المتعددة في المجتمع نفسها ممثلة في المركب الثقافي العام.
• هل يعترف بالتنوع الثقافي في المجتمع ومن ثم بالمساواة الثقافية.
• الذاكرة القومية للأمة وقدرتها على أن تحمل التاريخ الثقافي للخصوصيات.
• إلى أي مدي تستطيع أن تعبر الخصوصيات عن نفسها وأن تظهر المنظومة الرمزية الخاصة بها.
• مناهج التعليم وإلى أي مدى تدعم أو تعوق المواطنة الثقافية.
• البرامج الإعلامية:هل تراعي المواطنة الثقافية، أي قيم تروج لها، أي رسائل إعلامية ترسلها.

 

وبعد، بمقدار ما تتحقق العناصر السابقة بمقدار ما نستطيع القول أننا اقتربنا من المواطنة..وفي نفس الوقت بمقدار ما يتحرك المواطنون معا بغض النظر عن أية اختلافات بينهم لجعل هذه العناصر موضع التنفيذ،هو ما يجهلها مكتسبات حقيقية في تاريخ الشعوب،وهو ما يضمن في نفس الوقت تحقيق ما يعرف في أدبيات المواطنة بالاندماج Inclusion بين مكونات الوطن الواحد/ الجماعة الوطنية الواحدة(وهي من المصطلحات المتعارف عليها تمييزا عن الجماعة الدينية والعرقية..حيث التشكيلات الأولية تصب في الوعاء الأوسع ألا وهو الوطن ويراجع في هذا المقام Nation Building And Citizenship،لبيندكس). إن أي حديث حول إمكانية تحقق المواطنة بأبعادها من دون جهد مادي يغير من البني المقاومة ،(وقد شرحنا في كتابنا المواطنة والتغيير عناصر هذه البني التي أسميناها مركب إعاقة المواطنة ويضم: التكنوقراط القدامى والجدد،البيروقراطية الضخمة العتيقة،الليبراليون الجدد،الاقتصاد الريعي،أشكال التنظيم الأولية المغلقة) لا يستقيم مع مسيرة المواطنة وكيفية تبلورها عبر حركة الناس بما يترتب على هذه الحركة من إنجازات بنيوية لهم وليس مكاسب فردية.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern