(حركة اليسار الديمقراطي (قراءة في وثيقة

عرضنا في مقال الأسبوع الماضي ما طرحه الأكاديمي الشهير روجر أوين على حركات اليسار العربية من ضرورة تبني جدول أعمال جديد يمكنها من الحضور الفاعل في الواقع العربي المعاصر. وأكدنا على أن هذا الطرح هو في حقيقته أكثر من جدول أعمال..أنه مشروع تجديدي شامل لابد من العمل علي إتمامه..كيف؟

 

من أين نبدأ؟

إن أي مشروع تجديدي يجب أن يأخذ في الاعتبار المستجدات التي طرأت على بنية المجتمع العربي،والإطلاع على جديد المنظومة العالمية،و قراءة وترجمة الأدبيات اليسارية العالمية المعتبرة التي أسهمت في تجديد الخطاب اليساري،ودراسة الخبرات العملية التي استطاعت فيها الحركات اليسارية أن تحقق انجازات ملموسة كما هو الحال في دول أمريكا اللاتينية(وخاصة رؤية هذه الحركات للثروة وكيفية التعامل معها- والتيار الديني- والنظرة للتحديث،...الخ)،وأخيرا لا ينبغي إهمال المحاولات الجدية المحلية التي تمت في الأعوام الأخيرة لتجديد اليسار العربي. وسوف نبدأ في هذا المقال بالعنصر الأخير، حيث نستعرض الوثيقة التي أصدرتها اللجنة المؤقتة لحركة اليسار الديمقراطي اللبنانية تحت عنوان"مشروع وثيقة سياسية لحركة اليسار الديمقراطي" لأهميتها،(نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية منذ أكثر من عامين)، ولأنه لن يتسع المقام لعرضها كاملا،حيث تقترب من الثلاثين صفحة، سوف نركز على البعد المفهومي والفكري، ونترك السياسي لمقام آخر.. فماذا جاء فيها؟

اليسار الديمقراطي:المنطلقات

تنطلق الوثيقة في رؤيتها لليسار الديمقراطي، بأنها حركة تتجاوز شرط وحدانية الفكر وتعكس الفهم المشترك للتنوع..حركة تعتمد الديمقراطية وتعيشها داخليا عبر الحوار والتنافس والنقد والتقويم والانتخاب والعمل القطاعي..حركة تدعو إلى بناء ائتلاف اليسار على تنوع مكوناته،للعب دوره على مساحة الوطن. وتطرح الوثيقة إعادة لتعريف اليسار تقول بتعريفه"خارج إطار المفاهيم الضيقة والفئوية التي سادت في حقبة الاشتراكية السوفياتية.وهذا يفترض،ليس فقط النظر إلى الماركسية كمنهج علمي وغير وحيد لتفسير العلاقات والجدليات الاجتماعية والاقتصادية،بل أيضا عدم اعتبارها شرطا ضروريا ولازما للتعاقد فيما بيننا كيساريين.فاليسار أوسع من الماركسية، ويمكن أن يضم في حركته ماركسيين وغير ماركسيين". وتعمل هذه الحركة على مواجهة"الرأسمالية السائدة والنضال من أجل تجاوزها لصالح مجتمعات إنسانية عادلة تحترم الإنسان وحقوقه وعمله،وتقوم علة التوزيع العادل للثروات،وتؤمن بالديمقراطية وتمارسها". ويتطلب ما سبق "إعادة درس تجربة الاشتراكية والفكر الاشتراكي عموما،بعقل نقدي ومنفتح على النظريات والمفاهيم المختلفة من دون أحكام أيديولوجية مسبقة.كما أنه يتطلب تحديدا دقيقا لطبيعة المرحلة التي نخوضها..ولم يعد يمكننا ونحن وسط التقييم والأسئلة ومحاولات التجديد، إلى مفاهيم منجزة لنعرف بها يسارنا..فالإشتراكية لم تعد اليوم نموذجا عمليا ناجزا،بل إطار نظري أخلاقي..وبالتالي صار لزاما علينا أن نحدد صورتنا لا في الأهداف الخيالية بل في المعارك الملموسة من أجل التغيير،وعلى أساس معايير الإمكان أكثر من معايير الجذرية".
في ضوء ما سبق، ستعمل الحركة من أجل ذوي الدخل المحدود بغير تزمت طبقي كالذي مورس باسم الطبقة العاملة حينا، وبالنيابة عنها حينا وعن جميع الكادحين أحيانا. ومن أجل النضالات الإنسانية وفي سبيل مساواة الرجل بالمرأة،وبالدفاع عن البيئة وعن الصحة العامة وكل من ينتهك الموارد والثروات الطبيعية الحاضنة الإنسان والحامية صحته. كما تدافع الحركة عن عدالة التوزيع بغير تناقض مع تعزيز الإنتاج، وعن مصالح قوى الإنتاج التي تسحقها و تحاصرها آليات نظام السوق المنفلتة. كذلك تدافع الحركة عن حقوق الإنسان وعن الحريات العامة والخاصة وعن الحق في التعبير والإبداع في وجه القمع والظلامية ..ويعمل على التفاعل مع الثقافة والفكر الإنسانيين بكل تياراتهما،يغتني بمعارف العصر وعلومه.
وتؤكد الوثيقة على أنه من أجل أن تكون الحركة قوة فاعلة في المجتمع بالمعنى الدقيق للكلمة"فشأننا هو الشأن السياسي – الاجتماعي،ومعيار الانتماء إلى تيارنا ينبع من هذا المجال تحديدا. نحن يسار يرفض أن يعرف بالإلحاد فينعزل عن محيطه، مثلما يرفض تحويل الدين إلى سياسة وفرضه على المجتمع والدولة..يتيح لكل عضو من أعضائه أن يعبر عن اقتناعاته في مجال الدين،كل في حيزه الخاص.. ومن أجل الوطنية التي هي نقيض لكل أشكال الانغلاق والعنصرية ورفض للتذويب وطمس للخصوصيات. ولا يعد ماسبق " نهاية التاريخ"،ولا حدود النضال الأخيرة.فالصراع الاجتماعي والسياسي المفتوح والقائم على التوق المستمر إلى التقدم والعدالة هو الذي يحدد طبيعة الأهداف في كل مرحلة.

في الموقف من الديمقراطية..والتغيير

تنقد الوثيقة نظرية المركزية الديمقراطية التي ارتبطت بفلسفة التغيير الانقلابي، وقامت على نظام أكثري للهيئات، أثبت تنافيه مع مبادئ الديمقراطية بما هي تمثيل عادل لمختلف التيارات. وعليه لابد لحركة اليسار الديمقراطي القطع مع تجارب الأحزاب الانقلابية والمركزية المتشددة..وعلى إنتاج أفضل علاقة بين حركة اليسار ومحيطها الاجتماعي،وتطوير روابط التكامل والتمايز بين الفرد والجماعة،كما العلاقة بين الجماعات في المواقع المختلفة. وترى الوثيقة أن الاصطفاف على أساس تيارات وبرامج داخل الحركة هو أساس الحيوية والفعالية السياسية. وتنقد الوثيقة مجمل الانخراط السابق مع مؤسسات المجتمع، سواء أكانت نقابية أم ديمقراطية عامة( طلابية، ونسائية، وأندية، وجمعيات، وتعاونيات...)،بسبب التناقض الذي كان حاصلا بين أولويات الأحزاب المركزية،وأولويات النقابات والمؤسسات الديمقراطية على تنوعها،الذي مرده غياب فكرة التكامل وتعدد الوظائف،وطغيان اعتبار أن الأحزاب هي الغاية النهائية لكل أنواع الانخراط عند أعضائها،وهي أداة الثورة وهي أداة التغيير النهائي.
أما عن التغيير،تقوم نظرتنا اليوم على فهمه- تقول الوثيقة- "بوصفه عملية مستدامة ومتطورة ومعقدة ومتنوعة المستويات وغير قابلة للإنجاز النهائي،وتشارك في صوغها مكونات المجتمع المعنية بحكم قيمها ومصالحها بها". وحتى الثورة، كفعل تغيير جذري، ليست قطيعة كاملة بين ما قبل وما بعد، وإنما هي عمل تفرضه أحيانا ممانعة متمادية ورافضة لمنطق التغيير والتطوير المستمر. وعليه فإن حركة اليسار الديمقراطي ما هي إلا:
فصيل من اليسار الجديد الذي يحاول أن يفك الطوق الفكري والسياسي الخانق
المفروض عليه،
نحو فتح الآفاق والعمل المتجدد لهدم الأسوار والأبواب المحكمة الإغلاق أمام الأجيال
الجديدة،
وأمام القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير الديمقراطي والاجتماعي،
وأمام شعوبنا المحاصرة بمأزق الاستبداد الداخلي،
وعقم حركات الاحتجاج والممانعة القائمة وماضويتها.

 

نحو مشروع نهضوي جديد

بعد أن تستعرض الوثيقة الظروف الدولية والعربية الراهنة(تداعيات 11سبتمبر والعولمة الأمنية والعسكرية،احتلال العراق والمشاريع الأميركية لأحكام السيطرة على المنطقة،الوضع في فلسطين)،تطرح مشروعها التجديدي حيث تقول بضرورة "الاعتراف بأن مسار التقدم الحضاري في بلداننا قد أصيب بانتكاستين كبيرتين:الأولى تمثلت في تشوه عملية التحول إلى الحداثة في مجتمعاتنا وهياكلنا السياسية وثقافتنا،وذلك بحكم فشل مشروع النهضة العربية والتنوير الديني في أواخر القرن 19. والانتكاسة الثانية تمثلت في المآل الذي بلغه مشروع حركة التحرر الوطني العربية في مرحلة الاستقلال، والذي حصد فشلا كبيرا أيضا في مواجهة إسرائيل، والتحرر من التبعية، والتكامل العربي، وفي التنمية، ومساواة الرجل بالمرأة...الأمر الذي تخشى معه الوثيقة أن تؤدي بنا إلى انتكاسة ثالثة إذا ما تركت أمام خيار الالتحاق التبعي شبه المطلق بالاتجاهات السياسية والاقتصادية للعولمة النيوليبرالية،والخيار الذي تمثله التيارات الماضوية بشقيها السلفية الجهادية أو الأصولية المحافظة.
وتوصي الوثيقة على إطلاق دينامية مجتمعية وثقافية خلاقة،وأن تبدع حلولا عصرية للقضايا الكبرى التي واجهت العالم العربي في مشروعي النهضة والتحرر الوطني. وقوى اليسار تحديدا،مطالبة بأن تكون حاملة لمشروع نهضوي معاصر،لا يقتصر على البعدين السياسي والاقتصادي فحسب،بل يشمل أيضا التحول الاجتماعي والثقافي. وفي هذا السياق تطرح الوثيقة بعد أن تتحدث عن الوضع السياسي اللبناني،مدخلا إصلاحيا عاما،يبدأ بالسياسي،ثم الإداري،ويقترب من البعدين الاقتصادي والاجتماعي حيث يشير إلى انقسام المجتمعات الوطنية بشكل حاد،بين قلة تحتكر الثروة والسلطة،وغالبية متوسعة من ضحايا العولمة والأنساق الاجتماعية والاقتصادية المتولدة عنها،وتأثير شركات متعددة الجنسيات بحجمها الاستثنائي على اجتياح الأسواق وضرب الشركات الوطنية والتحكم بالأسعار،ودور المضاربات المالية وما يمكن أن تنتجه من انهيارات في الأسواق المالية وفي قيمة العملات الوطنية.
تخلص الوثيقة إلى ضرورة وضع توجهات جديدة، بيد أنه وكي يتحقق ما تنادي به الوثيقة لابد من توازن قوى فعلي في المجتمع، كذلك ضرورة توفر ضغط شعبي سلمي..وهو ما يتطلب بناء حركة نقابية جديدة مستقلة،وتفعيل التجمعات المهنية والمنظمات الاجتماعية ومراكز الأبحاث المتخصصة.
وبعد، ففي إطار حديثنا عن اليسار وتجديد مشروعه، قدمنا لمحاولة عربية تحمل الكثير من الأفكار الجديرة بالنقاش، وسوف نعرض لأطروحات أخرى في سياقات متعددة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern