عرف تعبير الدولة الفاشلة، للمرة الأولى،من خلال الباحث الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما(مؤلف كتاب نهاية التاريخ) في كتابه بناء الدول State Building،الذي صدر في عام 2004، حيث أكد على أهمية استعادة الدولة لأداء أدوارها التي تخلت عنها،فباتت دولة فاشلة Failed State ،لماذا ؟
الدولة قبل السوق
يؤكد فوكوياما الليبرالي الأصيل على أهمية استرجاع دور الدولة وإعادة بناء مؤسساتها لتمكينها
من لعب دورها الحيوي في توجيه عمليات التنمية وحماية التماسك المجتمعي.فلقد ثبت أن تقليص الإنفاق العام للدولة وبخاصة في مجالات الخدمة الاجتماعية والصحة والتعليم قد أدى إلى تفاقم المشاكل باطراد،وأن إعلاء قيمة السوق على حساب الدولة في ضوء برامج الإصلاح الاقتصادي التي كان جوهرها التحرر الاقتصادي المطلق كان يعني في الواقع التحرر من الدولة،وهو أمر كارثي بكل المقاييس،(يراجع في هذا المقام الكتاب الهام States Against Markets ).
ويشير فوكوياما إلى أن هذا التحرر الاقتصادي المطلق تحت لافتة اقتصاد السوق قد أدى إلى كثير من الفضائح المالية الضخمة واستشراء الفساد بشكل غير مسبوق وسيادة الاحتكار والرشوة والعمولات (فضيحة انرون- وفضيحة شبكات الكهرباء في كاليفورنيا- تراجع المخصصات المالية للبنية التحتية وهو ما كشف عنه إعصار كارولينا)،الأمر الذي ترتب عليه الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والصحية، فضعفت الدولة وفشلت،ومن هنا جاء تعبير الدولة الفاشلة. ومن أجل أن تتجاوز الدولة فشلها لابد وأن تضطلع بعدد من الأدوار وألا تترك للسوق.
الدولة غير الفاشلة
يحدد فوكوياما طريق الدولة إلى النجاح،بان هناك 16 مهمة لامناص من أن تتولى إداراتها وذلك كما يلي:وضع السياسات العامة،الدفاع،إعمال القانون،ضبط النظام العام،صيانة حقوق الملكية،حماية الفقراء،الصحة العامة،التعليم،الضمان الاجتماعي،الحماية البيئية،ضمان معاشات عادلة،التأمين ضد البطالة،الإشراف على الأسواق وضبطها،تشجيع المبادرات الجماعية،إعادة توزيع الموارد والثروة،إدارة المشروعات الاقتصادية الضخمة. هذه هي الأدوار والوظائف المنوط بالدولة أن تمارسها لضمان حدوث التطور اللازم، باعتبارها الضامن لتحقيق العدل بين الجميع، بين من يملك ومن لا يملك. لقد فتحت أفكار فوكوياما الباب لمراجعة أطروحة انسحاب وتخلي الدولة عن أدوارها،وتكمن أهمية هذه المراجعات في أنها تأتي من أنصار المدرسة الليبرالية،نفس المصدر الذي روج لنا لأطروحة تخلي الدولة وانسحابها،ولكننا لم نزل نتمسك بأفكار تتم مراجعتها،بل وأصبح الآن في ضوء الأفكار الأولية التي طرحت في هذا المقام،مؤشرا سنويا للدول الفاشلة(صدر منه ثلاثة مؤشرات سنوية عن مجلة فورين بوليسي الأمريكية/ومؤسسة كارنيجي)،سوف نحاول أن نقدم للقارئ المنهجية التي يعمل بها،والمؤشرات التي يسترشد بها في التصنيف وموقع مصر في هذا التصنيف.
تصنيف الفشل ومؤشراته
وضعت الجهة البحثية التي أعدت التصنيف 12 مؤشرا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا، لقياس مدى تدهور الدولة وفشلها، وطبقت هذه المؤشرات على 177دولة. وحصلت
الجهة البحثية على المعلومات من أكثر من 12000مصدرا. وتم تقسيم الدول إلى خمس مجموعات وذلك كما يلي:
(أ) الدول حادة الفشل.
(ب) دول في خطر.
(ج) دول في الحد المقبول.
(د) الدول المستقرة.
(هـ) الدول الأكثر استقرارا.
وتم ترتيب الدول من حيث درجة الفشل عبر الخمسة تصنيفات السابقة، بحيث تكون الدولة الأكثر فشلا هي الدولة رقم واحد والدولة الأكثر استقرارا الدولة رقم 177،ويتحدد الترتيب في ضوء إجمالي الدرجات التي تعطى لكل مؤشر من المؤشرات الإثني عشر(الدرجة من 10)، وهذه المؤشرات كما يلي:
(1) الضغوط الديموجرافية (2) اللاجئون والمهجرون.
(3) الظلم الجماعي. (4) النزوح البشري.
(5) النمو غير المتكافئ. (6) الاقتصاد.
(7) شرعية الدولة. (8) الخدمات العامة.
(9) حقوق الإنسان (10) الأجهزة الأمنية.
(11) النخب ومدى انقسامها أو توحدها. (12) التدخل الأجنبي.
في هذا السياق وضعت مصر في المجموعة الثانية والتي وصفت "بدول في خطر"وقد ضمت 20 دولة(أي من المركز 21 إلى المركز 40)،واحتلت مصر المركز 36،من ضمن مجموعة ضمت نيبال(21) وأوزبكستان وسيراليون واليمن وسريلانكا والكونجو وليبيريا ولبنان و ملاوي وجزر سليمان وكينيا والنيجر وكولومبيا وكولومبيا وبوركينا فاسو والكاميرون ورواندا وغينيا-بيساو وطاجيكستان وسوريا(40).( وتجدر الإشارة وللتذكير أنه كلما تأخر الترتيب كلما تقدمت الدولة)...ويبقى السؤال هل من بديل لتجاوز الفشل؟
البديل لتحقيق النجاح
بداية لابد من الإشارة إلى أن المجموعات الثلاث الأولى الأسوأ تضم في الأغلب الأعم الدول الأفريقية وبعض الدول العربية مثل السودان الدولة التي احتلت المركز الأول وتلتها العراق، وبعض دول آسيا الفقيرة. بيد أن غالبية دول أمريكا اللاتينية وعدد كبير من الدول الآسيوية نجدها وقد احتلت مراكز متقدمة في هذا التصنيف،ومن ثم لابد وأن ندرس كيفية الاستفادة من خبرات هذه الدول،ولقد قمنا بدراسة التجربة الهندية في الأسبوع الماضي،وسوف نتعرض لتجارب من أمريكا اللاتينية في مقالات قادمة. ولكن ما يمكن أن نقوله الآن هو أن نقطة البدء يجب أن تكون "حضور الدولة"ليس بالمعنى النازي أو الستاليني التاريخي أو العالمثالثي،وإنما من خلال دولة متطورة ومرنة لديها قدرات مؤسسية عالية وحداثية،ليست دولة البيروقراطية المتضخمة أو التكنوقراط محدودي الرؤية ضيقي الأفق، التي تحرص على إعمال القانون فيكون الجميع أمامه سواء بغض النظر عن اللون والجنس والدين والمكانة والثروة،على قاعدة اقتصاد إنتاجي مقتحم للمجالات التكنولوجية المتقدمة ولديه قدرات تصديرية وتنافسية عالية يضمن تحقيق العدل الاجتماعي بين المواطنين،وتوفير خدمات عامة جيدة،ورفع مستوى المعيشة،وتقديم حلول مبتكرة ذات طابع جذري لحل مشكلات الفقر ليست،وتدعيم آليات الاندماج بين المواطنين فلا يعود أحد يرتد إلى دوائر الانتماء الأولية التي تفكك الوطن وتحوله إلى أكثر من وطن في نفس السياق الجغرافي،والعمل على تمكين الناس من المشاركة و إزالة الانسداد من قنوات التعبير المدني،والتقليل من القيود والمحاذير والموانع التي تعوق من انطلاق العمل المدني،وتطوير التعليم وإحداث نهوض ثقافي وعلمي في شتى المجالات في مواجهة التزمت والجمود والخرافة...
هذا هو البديل /البدائل الذي ينقذنا من أن نظل مصنفين في مجموعة دول في خطر ويدفع بنا أن نكون دولة ناجحة.