تحدثنا في الأسبوع الماضي عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية‘بشكل عام،وموقفها من الشرق الأوسط بشكل خاص. ويثور الجدل كل فترة وبخاصة مع قرب الاستحقاق الرئاسي،عن مدى تمايز السياسة الخارجية بين الديمقراطيين والجمهوريين، بيد أن هذا الجدل هذه المرة ونحن نقترب من الحملة الانتخابية الرئاسية يحاول أن يقول أن هناك انقساما
حادا بين الحزبين الكبيرين،وأن خللا قد أصاب التوافق بينهما،كما جاء في دراسة هامة نشرت هذا الشهر في مجلة فورين أفيرز بعنوان:نحو إستراتيجية كبرى لأمريكا المنقسمة (يقصد إستراتيجية موحدة للسياسة الخارجية للحزبين)Grand Strategy for a Divided America. وهو ما يعكس ضمنا أنه لا يمكن رصد تمايز حقيقي بين الحزبين، وأنه لا ينبغي النظر إلى الحالة الحزبية الأمريكية بالمعايير الأوروبية، وأنه لا يوجد اتجاهات فكرية وأيديولوجية تعكس خريطة فكرية وسياسية محددة كما هو الحال في أوروبا...كيف؟
(أ) أمريكا ليست أوروبا؛
بفعل الحضور المتعدد المستويات للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة،في إطار تحركها الإمبراطوري الكوني،باتت دراسة وفهم الظاهرة الأمريكية من داخلها ضرورة قصوى.ولعل أول ما يجب أخذه في الاعتبار،في هذا المقام،هو أن المسار التاريخي الأمريكي مختلف كلية عن المسار التاريخي الأوروبي.ولو أخذنا الديمقراطية- كمثال- سنجد أن هناك اختلافا بين الديمقراطيتين الأوروبية والأمريكية. فالعلاقة بين المواطن والحزب في الولايات المتحدة الأمريكية لا تعرف نفس العلاقة التي تعرفها أوروبا.فالحزب في أمريكا يمكن أن يضم فئات اجتماعية واقتصادية مختلفة ويصبح الحزب بالتالي أقرب إلى التجمع السياسي.بينما نجد الحزب في أوروبا تعبير عن فئات وطبقات اجتماعية محددة. وعليه يوجد تمايز صارم بين اليمين والوسط واليسار بدرجاتهم المتنوعة وتحالفاتهم التكتيكية والإستراتيجية.أما في أمريكا فلا يوجد هذا التمايز ، فالحزب السياسي بما يحمل من أيديولوجية ورؤى محددة لقضايا الوطن والمجتمع المختلفة والتي تعبر عن مصالح اجتماعية واقتصادية بعينها ليس له وجود في الحياة السياسية الأمريكية...لماذا؟
تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى العودة إلى التاريخ...
(ب) الديمقراطية الأمريكية تاريخيا؛
منذ وضع الدستور الأمريكي(1789 بعد مسيرة كفاحية طويلة)، تم تصنيع الديمقراطية بحيث تعمل القلة الثرية على كبح جماح قوة الأغلبية رأسيا وإعاقة صعودها إلى أعلى للتأثير على الحكومة أو تصعيد من يريدون بشكل مباشر،وتكون ما عرف بالمجمع الانتخابي الذي يؤخذ بما يصل إليه حتى لو تناقض رأيه مع الإرادة الشعبية،كما حدث،مثلا،عندما أنتخب المجمع الانتخابي الرئيس بوش الابن- في المرة الأولى- على غير الإرادة الشعبية. إن الرئيس الأمريكي لا يعتبر مرشحا لحزب وإنما معبر عن المصلحة القومية الأمريكية،وما الحزبين الكبيرين سوى قناتين لتوصيل المرشح بغض النظر عن الانتماء الحزبي لتولي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن مصالح الأمة التي تعني في الواقع الكيانات الاقتصادية العملاقة،وليس دفاعا عن رؤية قومية للحزب الذي ينتمي إليه.
ويشرح لنا الباحث الأمريكي فريد زكريا،ما سبق،فيقول"..مع أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر،اكتسبت مؤسستان رئيسيتان القوة:الحكومة الاتحادية والرئاسة"وذلك بسبب"صعود صناعات حديثة وتكنولوجيات جديدة ،وتحول مؤسسات الأعمال إلى مؤسسات قومية .وأصبحت مجموعة قواعد الدولة المتعارف عليها تاريخيا متقادمة... كما خلقت القوة المتزايدة للرئاسة، وهو المنصب الذي سرعان ما أعتبره البعض"ملكية منتخبة"، دولة أشد تماسكا وسياسة أمريكية أكثر ترابطا على الجبهتين الداخلية والدولية".إن التأسيس "للرئاسة الإمبريالية"،بحسب فريد زكريا،ساهم في تعضيد النظام السياسي الأمريكي وذلك من خلال العملية المعقدة لاختيار الرئيس الأمريكي حيث وصفت بأنها العملية التي يتم بها شخصنة Personify الرئاسة بحيث تصبح هي النقطة المحورية للعملية السياسية.وعليه فإن الانحياز السياسي بالمعنى الذي تعرفه أوروبا لا يعرفه الأمريكيون،كذلك الالتزام الحزبي بالمعنى الأيديولوجي لا يدخل في صميم الممارسة السياسية.
(ج) جماعات مصالح وكتل تصويتية؛
مما سبق نجد أن البنية السياسية الأمريكية باتت تتكون من جماعات الضغط واللوبيات
السياسية أو جماعات العمل العام أو جماعات المصالح الخاصة( جماعة صناعة السلاح، الدواء، النفط، اللوبي اليهودي...الخ)،ويضاف إلى ماسبق الكتل التصويتية مثل الكتلة الدينية. وتقوم هذه الجماعات والكتل بما يلي: تمويل الحملات الانتخابية، ودعم المرشحين، وتحريك كتلة الناخبين، وتحريك الصفوة، وتوظيف وسائل الإعلام بأنواعها.
ويتم ذلك بغض النظر عن الانتماء الحزبي، الأمر الذي ساعد على إضعاف الأحزاب السياسية. ويشار هنا إلى دور كل من الكتلة التصويتية الدينية وجماعة النفط في انتخاب الإدارة الحالية لدورتين،حيث تمثل الكتلة الدينية أكثر من 25% من إجمالي المصوتين،وتتميز بأنها وحدة واحدة غير مفتتة،بإلاضافة للمال الذي وفره لوبي النفط .وهكذا أصبحت الكتلة الدينية التصويتية والتي تتكون من تنويعات اجتماعية متعددة يجمعها الإيمان القاعدة الاجتماعية لجماعة النفط، الأمر الذي يعكس حالة خاصة مغايرة بالكامل عن الحالة الأوروبية حيث الخريطة السياسية والأيديولوجية أكثر انضباطا ووضوحا.
(د) خريطة أخرى،
ساهمت المكارثية،والتي عنيت بوضع قواعد صارمة ،بعد الحرب العالمية الثانية،في تعقب وملاحقة كل من تبدو عليه مظاهر احتجاجية أو راديكالية، ومن قبلها تراث مواجهة الحركات العمالية والفلاحية على مدى القرنين 18 و19،وذلك لصالح "الأقلية الثروية" المكونة للمجمع الصناعي العسكري التكنولوجي الأمريكي. لذا حوصرت إلى حد كبير الحركات الاجتماعية ذات الطابع الاجتماعي والطبقي، حقوقية نوعية نعم طبقية لا، ومن ثم ذابت مفاهيم اليمين واليسار والوسط المتعارف عليها. وفي ضوء ما سبق باتت الديمقراطية انعكاسا للنظام الاقتصادي – السياسي، أي من يملك الثروة من جهة، وطريقة توزيع السلطة من جهة أخرى.وعليه يصبح الكونجرس بمجلسيه والحكومة في خدمة القلة ذات الامتيازات وليس عامة الناس. وتصبح العملية الديمقراطية هي تعبير عن حركة القلة الثروية لنيل أصوات الكتل التصويتية من خلال خلق روابط ذات طبيعة خدمية أو تقديم تسهيلات لعملها ،وليس تحرك قائم على انتماءات اجتماعية،حيث يحصل الحزب عبر مرشحيه على أصوات من يمثلهم اجتماعيا (راجع كتابنا المواطنة والتغيير).
(هـ) خاتمة؛
أمران لابد أن نقف عندهما مما سبق،الأول فهم أن آليات صناعة القرار يحددها ما يعرف بالمصلحة الأمريكية القومية العليا التي هي تعبير عن مصالح المجمع الصناعي العسكري التكنولوجي وهو ما يحرك أعضاء الكونجرس والإدارة بالأساس ولا شيء آخر، الثاني شعور يتسرب لدى المتابع في الترويج للنموذج الأمريكي الديمقراطي الذي يفرغ العملية السياسية من اتجاهاتها المختلفة لصالح أقلية ثروية وكتل تصويتية ليس لديها مانع أن تقدم أصواتها لمن يدفع أكثر...ألم تكن الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة قريبة بعض الشيء من ذلك...
وبعد... يقول مايكل بارينتي في كتابه ديمقراطية للقلة؛
إن المصدر الأساسي للثروة في أمريكا هو الوراثة...
وعلى العكس مما هو شائع فإن ثروة أمريكا لا تملكها طبقة وسطى عريضة،
10% من البيوت الأمريكية والتي تتربع في قمة الهرم تملك 98% من السندات
المعفاة من الضرائب.
كما تملك مؤسسات الأعمال 94% من الأصول المالية و95 %من قيمة كل
الودائع..
وتملك الطبقة الأغنى والتي لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين ما يصل إلى
60 %من أسهم الشركات الكبرى.