يطرح الباحث الأمريكي فريد زكريا(من أصل هندي ورئيس تحرير النيوزويك ) فكرة محورية حول السياسة الخارجية الأمريكية تقول"أن السياسة الخارجية لا تصنعها الأمة ككل،وإنما تصنعها حكومتها."وما الحكومة في الولايات المتحدة الأمريكية إلا تعبير عن "تحالف المجمع العسكري الصناعي التكنولوجي " الصانع الأول للقوة والدافع نحو التوسع المستمر.
* السياسة الخارجية الأمريكية والاستجابة للقوة والتوسع
في هذا السياق تشكلت السياسة الخارجية الأمريكية، تاريخيا، استجابة لأمرين هما:الأول القوة الأمريكية المتنامية باطراد، الثاني المصالح التوسعية الأمريكية. وتشير المتابعة الدقيقة لجوهر السياسة الخارجية الأمريكية ولطبيعة الدور الأمريكي على مر العهود الرئاسية المتعاقبة إلى أن هناك فكرة حاكمة تحكم هذه السياسة وهذا الدور، ألا وهي"إن قيم أمريكا ومؤسساتها وآلياتها لابد وأن تمتد إلى العالم كله"، إن قراءة كثير من النصوص حول الرؤية الأمريكية للعالم تعكس "نظرة للذات رسالية واستعلائية تجاه العالم"(راجع كتابنا الإمبراطورية الأمريكية وثلاثية الثروة والدين والقوة)،قد تختلف الوسائل والأساليب إلا أنها في المجمل تتفق في ضرورة تحقيق هذه الفكرة.
فأحيانا يذهب البعض كما في حالة تيودور روزفلت إلى استخدام القوة فهو صاحب سياسة العصا الغليظة Big Policy Stick،وهي السياسة التي بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة دور الشرطي في أمريكا اللاتينية وما يترتب على ذلك من مراقبة سلوكيات شعوبها ،والتدخل بقواتها مباشرة لقمع أي تمرد أو إخلال بالنظام،أو بدعم أنظمة الحكم العسكرية. بعد روزفلت،جاء وودرو ويلسون ليطرح رؤية أخلاقية للسياسة الخارجية الأمريكية، لا تختلف في مضمونها عن سياسة روزفلت من حيث إمكانية استخدام القوة،لذا ليس غريبا أن ويلسون الأخلاقي تتحقق رؤيته لهذه السياسة من خلال قبول مشاركة أمريكا في الحرب العالمية الأولى،ويعلق كيسنجر على هذا الأمر بقوله"لقد تحول دخول أمريكا الحرب إلى لحظة تعريف لسياستها الخارجية"المعبرة عن التوسع وعن تنامي القوة المطرد. صفوة القول هناك علاقة" طردية" بين :
• ازدياد القوة الذاتية الأمريكية وبين بدء الاهتمام بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
ويبدو في هذا الإطار الحديث عن تصنيف السياسة الخارجية الأمريكية إلى اتجاه واقعي وآخر مثالي، أمر لا ينبغي التمسك به كثيرا. وعلى الرغم من أن سينجرانيللي(أستاذ علوم سياسية أمريكي بارز) في مرجعه الهام "الأخلاق،السياسة الخارجية الأمريكية والعالم الثالث"،قد وضع أربعة نماذج تفسر سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة(ثلاثة تحققوا والرابع لم يتحقق بعد حيث أن تحققه يعني تحولا جذريا لأمريكا)، إلا أن الباحث المدقق سوف لا يجد تمايزات جوهرية بين النماذج الثلاثة التي تحققت إلا في بعض التفاصيل،وفي نفس الوقت سنجد اتفاقا كاملا بينهم حول ما يلي:
• سيادة النموذج الأمريكي.
• التدخل العسكري متى لزم الأمر للسيطرة على الموارد ولحصار الحركات المناوئة.
• توظيف النظام الاقتصادي العالمي بآلياته المؤسسية،وبالشركات المتعددة الجنسية بما يدعم الاقتصاد الأمريكي.
• دعم اقتصاد السوق والتجارة الحرة وربط ذلك بالديمقراطية.
* الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط
في ضوء ما سبق يمكن الحديث عن موقع الشرق الأوسط في السياسة الخارجية. تاريخيا لم تهتم الولايات المتحدة الأمريكية " بالشرق الأوسط" استراتيجيا إلا بعد الحرب العالمية الثانية،حين بدأت أمريكا تضطلع بممارسة مسئولياتها كدولة قطبية ذات مصالح كونية،ولا يعني هذا أن أمريكا كانت غائبة عن المنطقة قبل ذلك،فلقد كان لأمريكا علاقات تجارية بالمنطقة منذ منتصف القرن الثامن عشر،بالإضافة إلى نشاط البعثات التبشيرية الأمريكية التي بدأت بالقدوم إلى المنطقة في مطلع القرن العشرين.ويمكن القول أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة بدأ مع استنزاف قدر كبير من احتياطات النفط الأمريكي إبان الحرب العالمية الأولى،وطرحها لدعوة عرفت آنذاك "بسياسة الباب المفتوح"التي بموجبها يمكن تحقيق نوع من تكافؤ الفرص الاستثمارية أمام الدول الرأسمالية عن طريق تقسيم الأسواق لضمان تصريف المنتجات والحصول على المواد الخام،لإتاحة القدر نفسه من المشاركة أمام المشروعات الأمريكية في عمليات التنقيب عن البترول وإنتاجه وتسويقه. وظني أن ما سبق كان الأساس في تبلور رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط بعد أفول القوى الغربية التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية،وبدء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي،وهي الرؤية التي لم تتغير قط إلى يومنا هذا،قد تتغير التفاصيل ولكن لا تتغير الملامح العامة لهذه الرؤية،والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
• تأمين الحصول على النفط وضمان تدفق الأرصدة النقدية العربية.
• تطويق الأنظمة والحركات الراديكالية( اليسارية والقومية في وقت من الأوقات، والإسلامية الآن).
• الحفاظ على أمن إسرائيل.
*أمريكا والشرق الأوسط:رؤية ثابتة وخطط متغيرة
القارئ للأدبيات الأمريكية من دراسات علمية ووثائق ومقالات تناولت السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام وموقف هذه السياسة من الشرق الأوسط،لن يجد خروجا على الرؤية التي ذكرناها سالفا،وفي هذا المقام يمكن مراجعة الكتب المرجعية لكيسنجر،وميرشايمر،وهانت،ورؤية كوندوليزا رايس للسياسة الخارجية التي طرحتها أثناء الحملة الانتخابية لبوش قبل الدورة الأولى(يناير 2000) والتي يؤخذ بها إلى الآن،الوثيقة الرئاسية التي قدمت للرئيس بوش في يناير 2001والتي كان عنوانها:الإبحار في مياه مضطربة..أمريكا والشرق الأوسط في قرن جديد،ويعد هذا التقرير هو الحاكم لسلوك الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وما يراه من خطط لابد من تبنيها آخذا في الاعتبار الرؤية الإستراتيجية التاريخية. وقد تضمن هذا التقرير ما يلي:
• تبني مفهوم للشرق الأوسط واستبعاد مفهوم النظام الإقليمي العربي.
• الدعم المطلق لإسرائيل باعتبارها الركيزة الأولى لضمان الأمن الإقليمي..وكفالة تفوقها النوعي..بالتأكيد على التحالف غير المكتوب مع إسرائيل وتعزيز الردع الإسرائيلي..ضد أي هجمات أرضية أو صاروخية محتملة(وبخاصة من جانب حزب الله..لاحظ ذكر حزب الله تحديدا وهو ما حدث لاحقا).
• تهيئة المنطقة للشراكة وفق المصالح الأمريكية التي تدعم الأمن الأمريكي من جهة وتوفر المناخ الملائم لتطبيق اقتصاد السوق(تراجع وثائق الخاصة بالشرق الأوسط الجديد).
• اعتبار إسرائيل وتركيا وإيران، نعم إيران، الدول الثلاث الجديرة بقيادة المنطقة لأنها تمتلك نظما سياسية هي الأكثر حيوية وديناميكية وفاعلية في المنطقة.
• كما تتحدث الوثيقة عن مرحلة ما بعد عرفات، قبل أن يموت عرفات، وعن سوريا كدولة مارقة.
• حصار الراديكاليين الإقليميين.
• تأمين النفط العربي وخاصة العراقي.
لم يختلف كثيرا ما جاء في وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في 2006حول الشرق الأوسط عن ما سبق ذكره،ولا ماجاء في وثيقة ريتشارد هاس حول المنطقة وحرب العراق التي نشرها بعنوان الشرق الأوسط الجديد في مجلة فورين أفيرز(عدد نوفمبر – ديسمبر 2006)،عن التوجهات التي يجب أن تأخذ بها أمريكا في علاقتها بالشرق الأوسط،الجديد انطلاقا من أن الدولة الوطنية قد انتهت وأن المنطقة ترتد أكثر فأكثر إلى الهويات الإثنية والدينية،وربما تقع السلطة في أيدي المتشددين لسأمهم من الاستبداد،وعسكرة المنطقة،وارتفاع أسعار النفط بشكل غير مسبوق،وبقاء الإرهاب،وتداعي عملية السلام،ووقوع العراق في حرب أهلية،وستبقى إسرائيل الدولة القوية في المنطقة،..الخ، وهو ما سيوفر المزيد من التوتر مستقبلا،ويجب أن تحصن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في ضوء الملامح الأساسية للرؤية الأمريكية التاريخية للشرق الأوسط...وبعد،ما سبق محاولة للاقتراب من رؤية أمريكا للشرق الأوسط.. يا ترى هل لدينا رؤية مغايرة؟