كتابة المذكرات تقليد حضاري تعرفه المجتمعات الحية لأنها تضمن الحفاظ على الذاكرة التاريخية للأمة، خاصة إذا كان أصحاب هذه المذكرات ممن أسهموا في نهضة هذا الوطن. كما أن مذكرات هؤلاء الرواد تكشف لنا في إطار استعراض الكاتب لسيرته الذاتية الكثير من الأمور التي تتطرق – في الأغلب- لمجالات عديدة من سياسة، وعلم، وتاريخ...الخ.
د.القصاص..أحد بناة مصر الحديثة
في هذا السياق تأتي مذكرات الدكتور محمد القصاص التي لم تزل تنشرها مجلة المصور في حلقات(نشر منها حتى وقت كتابة المقال أربعة حلقات)، وسوف يتم تجميعها في كتاب قريبا.ولعل ما دفعني للكتابة عنها أثناء نشرها كحلقات هو خطورة وأهمية ما طرحه الدكتور القصاص من معلومات وأفكار حول "أحوالنا العلمية"من جهة، وحول الخيارات العلمية المبكرة لإسرائيل والتي تمثل تهديدا حقيقيا لنا من جهة أخرى...وقبل أن نعرض لأهم ما جاء في هذه المذكرات، ربما يكون من المفيد تعريف الأجيال الجديدة بالدكتور القصاص.
الدكتور محمد القصاص(86سنة)،هو واحد من بناة مصر الحديثة،فهو أحد العلماء المعدودين على مستوى العالم في مجالات دراسة الصحراء والنباتات،وتخصص منذ وقت مبكر في الصحاري المصرية ونهر النيل،ويمكن القول – وبغير مبالغة- أنه يعرف بدقة كل بقعة من بقاع مصر معرفة دقيقة. كما أنه ينتمي لهذه الطغمة من رجال العلم الذين لم ينكفئوا على تخصصهم الضيق،بل عمل طول حياته على أن يسخر العلم من أجل تطور المجتمع.
التقدم العلمي:ابتكار..مال..دعم الدولة
يبدأ الدكتور القصاص مذكراته برواية نصها"في عصر يومي الأخير في كامبردج(30 يونيو 1950) ذهبت لأودع أستاذي وأسرته الكريمة...لما تهيأت للوداع قام الأستاذ وأوصلني إلى باب الحديقة،وتوقف ليقول لي نصيحتين..الأولى افتح لنفسك في البحوث العلمية مجالا غير المجالات التي يعمل فيها من سبقوك من الأساتذة"انه الابتكار"، والثانية أنظر عبر الحدود لترى ماذا يصنعون (كان يقصد إسرائيل)."ويقول الدكتور القصاص أنه لم يكن على دراية بهذا الباب،فلقد نشأت إسرائيل وهو بعيد عن مصر. بيد أنه بعد أقل من أربعة أعوام دعي الدكتور القصاص إلى المؤتمر الأول عن بيئة النبات في المناطق الجافة الذي عقد في فرنسا عام 1954،وقد أتاح له هذا المؤتمر أن يتعرف على أهمية المدرسة الفرنسية في هذا المجال كذلك المدرسة الإسرائيلية التي وجدها:
• وضعت كتابا عن الزراعة في سيناء، من خلال زيارة قام بها عالم إسرائيلي إلى سيناء قبل 1948.
• وضعت مرجعا عن تصنيف النباتات في فلسطين وما حولها.
وكان السؤال الذي شغل الدكتور القصاص في هذا المحفل العلمي، ما هي عناصر القوة لدى الفريق الإسرائيلي؟..ويجيب؛ كان لقوتهم مصدران رئيسيان هما:
• العلم.
• دعم الدولة الذي يمكنها من التواجد في المحافل الدولية ويجعلها بعد الولايات المتحدة الأمريكية في التفاعل مع الجديد في العلم.
يضاف إلى ما سبق أن كل واحد من الفريق الإسرائيلي كان يتميز بالمتابعة المتعمقة لاتجاهات العلوم في مجاله، كذلك التمكن من عدد كبير من اللغات.
وتعلمت منه الكثير...
من أهم ما لفت نظري في مذكرات الدكتور القصاص، هو ذكره لكل من أنجز وأضاف شيئا في المجالات التي تعامل فيها، كذلك لكل من تعلم منهم شيئا...حيث يضع تقليدا شديد الرقي والسمو في أهمية أن يعطي المرء كل ذي حق حقه. فهاهو يذكر الأساتذة والدكاترة أحمد مجاهد كرائد لمجال علاقات النبات بالماء في الأراضي الجافة،و عبد الحليم منتصر رائد دراسات البيئة الذاتية للأنواع،وتادرس منقريوس تادرس رائد دراسات العشائر النباتية في مصر،ومحمد السيد غلاب،ومصطفى الجبلي،ومصطفى العيوطي(الجيولوجي)،ونصري متري شكري، ومحمود إبراهيم عطية،ورشدي سعيد،...الخ. وتجد عبارات من نوعية:
• صحبتي لفلان فتحت بصيرتي إلى كذا وكذا..
• تعلمت من صحبة أهل العلم..
• أفدت كثيرا من فلان وعلان..
• لقد سبقني فلان في هذا الأمر..
وفي هذا المقام نجده يذكر الفريق العلمي الذي تكون من 20 خبيرا وعالما في مختلف التخصصات ( الجيولوجيا، وموارد المياه، والأراضي، والنبات، والحيوان، والحشرات، والجغرافيا،والأنثربولوجيا)،وذهب إلى سيناء في عام1951لدراسة المنطقة الشرقية من شمال سيناء. ويقول الدكتور القصاص عن هذه البعثة بعد أن شرح دور كل عضو في هذا الفريق وأهميته، بأنها:
" كانت بعثة فريدة ولعلها الأولى،فيما بعد الفريق العلمي الذي صاحب نابليون إلى مصر وأعد كتاب وصف مصر،التي يحتشد فيها أكثر من عشرين من العلماء والخبراء ذوي التخصصات المتعددة ويمثلون فريقا متكاملا يقصد إلى مسح الموارد الطبيعية في منطقة شمال سيناء.ومن أسف أن هذه التجربة الرائدة لم تتكرر..ولعلي أذكر أن هؤلاء جميعا شاركوا متطوعين لم يطلبوا بدل سفر أو مكافآت، وإنما أقبلوا على العمل بإخلاص وحماس".
نحو تأسيس مدرسة علمية
كان الدكتور القصاص يدرك أن تأسيس مدرسة علمية هو أحد الشروط الأساسية التي تضمن امتلاك ما يعرف بKnow How،وتجعل من أي دولة أن تفاخر وأن تنافس،فعمل ما بين عامي 1950 و1970،على مجموعة من الدراسات والبحوث التأسيسية التي يستهدى بها في فهم حياة النبات في الأراضي الجافة،ساهمت في نشأة مدرسة علمية تشاركني(لاحظ كلمة تشاركني) في هذه الدراسات الدكاترة مصطفى إمام محمود،ومحمود عبد القوي زهران،ومحمد سامي الأبيض،ووليم عبد الله جرجس. لقد ساهمت هذه البحوث في معرفة وجود ماء في بعض الأراضي، وإمكانية الاستفادة من ذلك.أيضا من خلال تتبع حياة بعض النباتات وتكوين جذرها يمكن معرفة كيف تحصل على الماء وعليه اكتشاف المنابع والآبار المائية. وفي نفس الوقت استطاعت هذه المدرسة من التأكيد على الفوائد العلمية الجمة من المسوح الحقلية في مجالات التربة وما تضم من كائنات دقيقة، والأعشاب، والحشرات، وكيفية توظيف ذلك زراعيا وصناعيا. في أثناء هذه الفترة أنجز الدكتور القصاص خريطة نباتية لصحراء مصر الشرقية،كما شارك العالم الأسترالي ادوارد هيلز في إعداد الفصل الخاص عن حياة النبات في المرجع الذي كلفته بإعداده اليونسكو عن علوم الأراضي الجافة عام 1966. هذا ويشار إلى قدرته على منازلة الوفد الإسرائيلي في أحد المؤتمرات – لاحقا في عام 1959- لم يكن الحال كما كان الحال في أول مؤتمر حضره،والذي أشرنا له،فلقد أدرك منذ هذا المؤتمر أن القدرة على التنافس تعني بذل الجهد والمزيد من العمل الجاد والإنجاز.
نهر النيل ومؤسسة الري المصرية
خصص الدكتور القصاص جانبا من مذكراته لرحلة قام بها لدراسة النبات في منطقة السدود جنوب السودان،كانت الرحلة صعبة في ظل وسائل نقل بدائية،بيد أنها تعكس إلى أي مدى تعد مؤسسة الري المصرية مؤسسة ذات شأن ولها باع في دراسات رصد هيدرولوجيا النهر(حركته وتقلباته ومساره)،وأن رواده الكبار ومنهم "المهندس المصري العظيم يوسف سميكة كانوا دائما منشغلون بضبط النهر،والحفاظ على الموارد المائية وزيادتها من خلال مشروعات حيوية،وكيف أن مشروع جونجلي من الأهمية بمكان الأخذ به.يقول القصاص لقد تفتحت بصيرتي على هذا النهر الفريد الذي ترتبط به الحياة في مصر.
إنها مذكرات جديرة بالقراءة..وإني أدعو الشباب إلى قراءتها.. وفي انتظار طبعها كاملة..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:
• أثناء قراءتي لإحدى حلقات هذه المذكرات، طالعت عنوانا رئيسيا في إحدى الصحف يقول" السماح لأول مرة للقطاع الخاص بإنشاء وتشغيل مشروعات الري"...لا تعليق.
• أيضا كنت أقرأ حلقة من مذكرات لأحد الأشخاص ينسب لنفسه ما لم يقم به وهو ما سنكتب عنه في الوقت المناسب لإعطاء أحد الرواد حقه الذي تم إغفاله..وعدم ذكره لأي من رفاق الدرب.. هناك فرق بين مذكرات وأخرى.
جسور:
• الشكر لكل من أرسل لي عبر البريد الإلكتروني وهاتفني معلقا على مقال العدد الأخير"ألا يوجد وطني واحد في مصر": المفكر الكبير الدكتور أنور عبد الملك،و السيد أنور عصمت السادات نائب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية...