رقم توقفت عنده كثيرا،نشرته جريدة أخبار اليوم منذ أسابع،وهو أن تكلفة الدروس الخصوصية في مصر تصل إلى "22 مليار جنيه" في السنة الواحدة ،وهو رقم يقترب من الميزانية الحكومية المخصصة للتعليم.. أي أننا أمام تعليم رسمي يوازيه تعليم غير رسمي..والسؤال هل يمكن أن يستقيم هذا الأمر؟
تعليمنا في أزمة
في جيلنا كان اللجوء للدرس الخصوصي يحدث عند الضرورة
القصوى ولأسباب موضوعية تتعلق بقدرة التلميذ على استيعاب مادة بعينها،أو حاجة هذا التلميذ إلى متابعة إضافية فيها..وكانت الدروس تعطى في المراحل العليا من التعليم ..ولكن أن يتم تلقي الدروس في أغلب المواد، إن لم يكن كلها، وبداية من المراحل الأولى للتعليم..هو وضع يثير السؤال عن جدوى العملية التعليمية الرسمية برمتها إذا كان يتم مجاورتها بمنظومة تعليمية بنفس التكلفة..وحال يثير القلق أيضا..ويفرض علينا التحرك الفوري لإنقاذ التعليم من أزمته، انطلاقا من أن أي أزمة تلحق بالتعليم إنما تعني أن يكون الوطن في خطر...لماذا؟
لأن نقطة الانطلاق الأساسية التي تنطلق منها العملية التعليمية هو المستقبل، أو بلغة أخرى فإنه من المفترض أن التعليم يتم تحديد فلسفته الحاكمة ومناهجه المختلفة وإعداد معلميه وتصميم مبانيه التعليمية في ضوء الرؤية المستقبلية الشاملة التي يتم التخطيط لها والمتوقع أن تتحقق خلال عقدين على الأقل..وهو ما يعني أن المخططين للعملية التعليمية يأخذون في الاعتبار التغيرات التي سوف تلحق بالواقع، كذلك بالإقليم وبالعالم.. ووفق النتائج المترتبة على هذه القراءة المستقبلية يطرحون سؤالا جوهريا هو:
أي تلميذ أو طالب نريد ليتناسب مع هذا المستقبل؟
وعليه يتم وضع المناهج وتصميم بيئة العملية التعليمية، ومعايير اختيار الذي سيقوم بعملية التدريس...الخ.بيد أنه بات من الواضح أن المؤسسة التعليمية الرسمية بحالتها الراهنة لم تعد كيانا جاذبا، بل طاردا إلى أشكال تعليمية غير رسمية من خلال الدروس الخصوصية سواء بشكلها المؤسسي أي المراكز أو الفردي. ولا يعني هذا إلا أن التعليم بصورته الحالية بات روتينيا وتقليديا ونمطيا،أو يعتريه خلل ما، ومن ثم يمكن من خلال المذكرة والأسئلة النموذجية والكتب الخارجية والمدرس الخصوصي إنجاز المطلوب بأقل جهد ممكن.
أي أن التعليم كعملية تتضمن الحياة لفترة زمنية خلال اليوم في كيان تعليمي واللقاء مع آخرين والتفاعل مع مواد علمية حية لها تطبيقاتها العملية من جهة،ولها فوائدها المنظورة لدى المتعلمين من جهة أخرى،كذلك ممارسة أنشطة متنوعة بدنية وفنية وأدبية...الخ،أصبح يمكن الاستغناء عنه بكل سهولة دون أدنى انزعاج.
خبرات الآخرين
في عام 1996، عقدت في الولايات المتحدة الأمريكية ندوة قومية بعنوان "الإبداع الأمريكي في خطر"، لمناقشة أفضل السبل للوصول إلى مصادر الإبداع في أمريكا وضمان تدفقها، على خلفية القلق المتنامي من تأثير السياسات العامة على ضعف الإبداع وبخاصة في مجال التعليم. وأكدت الندوة من ضمن ما أكدت على المبدأ التالي:
* أن الإبداع صفة إنسانية أساسية يجب تنميتها في كل الناس، وليس في الفنانين والعلماء وحدهم. فحرية التعلم، والخلق، والمغامرة، والإخفاق، والتساؤل، والنضال، والنمو، هي الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه الولايات المتحدة.ونشر الإبداع بين كل الناس، من كل المواقع والفئات الاقتصادية والأصول العرقية، ضروري للمصلحة العامة.
وهذا المبدأ هو الذي يجب أن تنطلق منه مؤسسات التعليم المدرسية والجامعية، من أجل مستقبل أمريكا، ويهمني هنا رصد بعض الملاحظات التي تضمنها هذا المبدأ وذلك كما يلي:
• التأكيد على أن كل المواطنين لديهم طاقات إبداعية ومن حقهم على الوطن الذين يعيشون فيه أن تتم تنمية هذه الطاقات.
• المساواة في الحق في التعليم الإبداعي – إن جاز تسميته - بين كل المواطنين بغض النظر عن أية اختلافات من أي نوع.
• التعليم المطلوب هو تعليم ينشر الإبداع بين كل الناس، هو ليس تعليم تقليدي إذن، وهو تعليم ليس لخاصة.
• العنصر المحرك لهذا التعليم هو مستقبل أفضل للولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وأن التعليم المبدع هو السبيل الوحيد لتحقيق ما تخطط له أمريكا من خطط مستقبلية من جهة أخرى.
وتشير أعمال الندوة إلى عدة أمور منها:
1) أن برامج الجامعات والمدارس تدار كما لو كانت مشروعات استثمارية، لاحظ عزيزي القارئ أن يطرح هذا الكلام في أمريكا، وهو ما يضر بجودة التعليم الذي تقدمه.
2) تقلص الاستثمار في العلوم الأساسية،بالرغم من أن هذه العلوم عندما تم الاستثمار فيها – في الماضي- قد أدى إلى النجاح في إنجاز تطبيقات هامة في مجالات مثل الكومبيوتر وتقنيات الليزر،ومن ثم لابد من العناية بهذه المجالات لضمان التفوق العلمي.
3) مراعاة علاج الخلل في توازن المنهج الدراسي.فالتركيز على العلوم،والتقنيات،والرياضيات،وتدريس اللغات يأتي على حساب الآداب والإنسانيات والتربية البدنية.ومن الضروري مراعاة التوازن بين هذين الشقين في المقرر.وهذا ضروري لأن كل مجموعة من هذه المجموعات الكبيرة من المبادئ تعكس مناطق رئيسية من المعرفة والتجربة الثقافية التي يجب إتاحتها للمتعلمين دون تفريق هذا من جانب، ولأن كلا منها يخاطب نوعا خاصا من الذكاء والتطور الإبداعي.فمواطن قوة أي شخص قد تكون في واحد أو أكثر من هذا الذكاء.وسيؤدي المنهج الضيق وغير المتوازن إلى تعليم ضيق وغير متوازن لبعض الشباب،إن لم يكن لهم جميعا.
التغيير أو الخطر
ولعل ما سبق وجاء كتحفظات في الندوة – المشار إليها- يمكن أن نجد له تجسيدا في حالنا التعليمي من حيث غلبة الذهنية الاستثمارية، والتعليم النظري بدون تطبيقاته، والاهتمام بالعلوم التطبيقية، ويمكن إضافة اعتماد الذهنية الكمية في تطور التعليم.. فالحديث عن التعليم غالبا ما يأخذ منحى كميا من نوعية عدد المدارس و الفصول والتلاميذ بدون الحديث عن نوعية التعليم والمتعلمين.. وإلى أي مدى أتيحت فرص للتفكير والتجريب وللإبداع للمتعلمين..
من أهم ما يجده المتابع في خبرات الآخرين التعليمية( خبرة المملكة المتحدة والهند على سبيل المثال لا الحصر) هو أخذ العملية التعليمية مأخذ الجد باعتبارها السبيل الوحيد للتقدم،وتحذر من أن توضع النظم التعليمية وفق مسلمات قديمة مثل تلك التي ترى في الذكاء عملية خطية من التفكير العقلاني. فالطفل يعيش في واقع مختلف ربما يقبل على التعامل مع الكومبيوتر ويتقن بعض أولياته قبل تعلم القراءة والكتابة ومن ثم تتكون لديه مهارات متنوعة تتيح له أن يكون في تفكيره ما يطلق عليه شبكي التوجه أي قد يفكر بطريقة تتداخل فيها الكثير من الأفكار ويقوم بالربط بينها بشكل غير نمطي.وعليه لابد وأن تتغير نظم تعليمنا بما يتناسب والمتغيرات،فسياسات التعليم يمكنها أن تتعلم من الماضي لكن دون أن تسير على نهجه(كتاب الصناعات الإبداعية)،وإن لم يحدث ذلك فإن الخطر قادم لا محالة..وهذا التعبير ورد في كثير من الخبرات(أمريكا وانجلترا) التي أدركت أنه متى كان التعليم في أزمة فإن هذا يعني أن الوطن في خطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة:
* نحن لا يمكن أن نلتحق بالمستقبل ونحن ننظر إلى الخلف...نحن نحتاج إلى تعليم يقدر النماذج المختلفة من الذكاء(من شتى المستويات) ويدرك العلاقات بين فروع المعرفة..ولابد من التوازن بين الفنون والعلوم والدراسات الإنسانية في التعليم وفي كل أشكال التفكير التي تعلي من شأنها.ويجب أن تدرس بأساليب تعكس صلاتها الحميمة بما وراء عالم التعليم.
كن روبنسون
( خبير دولي في تجديد التعليم)