الدستور.. جلالتك

لعل من أهم ما عرض له مسلسل "فاروق"،هو صرامة تمسك النخبة الحاكمة بمرجعية الدستور،والاحتكام إليه في مواجهة الملك الشاب وحاشيته والإنجليز..بيد أن هذا التمسك لم يكن مجرد تمسك بنصوص وإنما كان الأمر أكثر من ذلك.. كيف؟

الدستور تعبير عن نضال الناس

يفرق أساتذة القانون الدستوري من خلال الخبرة التاريخية في العديد من دول العالم،بين عدة أنواع من الدساتير،بشكل عام، وذلك كما يلي:
• الدستور الصادر كمنحة من ولي الأمر،
• الدستور الصادر في شكل تعاقد بين ولي الأمر وممثلي الشعب،
• الدستور الصادر بواسطة جمعية نيابية،
• الدستور الصادر بضغوط دولية.
ففي الحالة المصرية،جاء دستور 1923 نتيجة نضال الناس على أرض الواقع،لذا جاءت النصوص،بدرجة أو أخرى، معبرة عن نضال الناس،وتبلورت بحسب أستاذنا الراحل وليم سليمان قلادة ما يسميه "اللحظة الدستورية"،فالنظام الدستوري الأصيل والفعال لا يقوم بمجرد إعلان مبدأ أو نص موضوع أو مستورد،وإنما تكون له فاعلية إذا كان تعبيرا عن جهد الناس لاستخلاص حقوقهم،وإذ تصل الجماعة من خلال حركتها إلى إجماع ..يصير التعبير عن هذا الإجماع في النص..من أجل المشاركة في الحكم واكتساب حقوق المواطنة.
في هذا المقام لابد من الإشارة إلى أن ثورة 1919 هي نتاج تحرك جماهيري أخذ في التبلور على مدى أعوام،هذا التحرك الذي مكن القوى البازغة أن تضع دستورا يعبر عن هذه الحركة،ويتيح للناس أن يتم التعبير عنهم..كيف؟

ثورة 1919:الاستقلال والمواطنة

أشير في عجالة لاجتهاد متميز حول ثورة 1919 لمصطفى النحاس جبر والذي تناول الثورة في رسالتيه للماجستير والدكتوراه، (نشرت تحت عنوان سياسة الاحتلال تجاه الحركة الوطنية من 1914- 1936، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985) حيث يقول:
"أن ثورة1919 نقطة تحول كيفية في مسيرة الحركة الوطنية المصرية وذلك من زاويتين: الأولى : تعدد القوى الاجتماعية والسياسية المشاركة في الثورة،
والثانية : تحقق التكامل الوطني بين المسلمين والأقباط بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر . بالنسبة للزاوية الأولى ، نجد مصر قد شهدت تحركا جماهيريا شاملا من أجل الاستقلال ، الأمر الذي يعنى في تاريخ المجتمعات والشعوب المدخل لتكوين الجماعة السياسية الوطنية،فما التحرك الجماهيري إلا مدخل نحو بدء الانطلاق لتأسيس هذا التكوين تكوينا مصريا ومزج الأهالي في كيان سياسي واحد و إيجاد الصيغة الملائمة لتأكيد قوة التماسك بين الآهلين . وعليه لم يكن غريبا أن يعتبر الباحثون ثورة 1919 " ثورة نموذج" من حيث قدرتها على استيعاب القوى الاجتماعية المختلفة وطرحها شعارات التف حولها الناس مثلت تعبيرا حيا لحاجة طالما اشتاق لبلوغها المصريون.
إن تطور المجتمع المصري أبان الحرب العالمية الأولى قد كشف عن ظاهرتين هما: الظاهرة الأولى؛ الضغط الهائل وغير الطبيعي على جماهير الشعب المصري من الفلاحين الفقراء والمتوسطين إلى جماهير المدن من البروليتاريا والحرفيين وصغار التجار منضما إليهم جماهير المتعلمين والموظفين وصغار الضباط ، وبالتالي فإن التنافس كان حادا وعدائيا بين هذه الفئات وبين الإمبريالية المتمثلة في الاحتلال والحماية .
والظاهرة الثانية؛ إن تطور البرجوازية المصرية أثناء الحرب وتوسعها إلى حد ما وزيادة ثروتها قد أدى إلى نمو وعيها وإحساسها بأهمية السوق الوطنية ، أو بتعبير آخر ، فأن مصر في العشرينيات لم يعد بالإمكان إخضاعها للأنظمة الإمبريالية لأن صناعتها الناشئة جعلتها في موقف المعادى للاتفاقيات التجارية الاستعمارية وهذا هو التنافس العدائي الثاني بين البرجوازية من جهة والاحتلال من جهة أخرى .
و أما الزاوية الثانية ، يمكن القول إن ثورة 1919 قد استطاعت أن تضع على بؤرة الحدث حركية جديدة مثلت ذروة في العلاقة بين مكوني الجماعة الوطنية ، حيث اتجهت بها نحو تحقيق الاندماج الوطني الذي بات مثالا يقاس عليه وهو ما يؤكده أبو سيف يوسف بقوله:" إنها (ثورة 1919)ارتفعت بقضية التكامل الوطني – القومي بين المسلمين والقبط إلى مستوى لم تبلغه من قبل ، فقد استطاعت أن تبلور المواطنة من خلال الالتفاف القاعدي من جموع المصريين حولها، وهي التي أعطت للمواطنة مضمونًا جماهيريا اجتماعيًا."
و يكتب المعتمد البريطاني في رسالة إلى لندن مؤكدا ما سبق قائلا:
"أود أن أوضح تماما إن الحركة الحاضرة في مصر حركة قومية بكل ما في هذه الكلمة من معنى".

الدستور.. الدستور

إن هذه الحركة القومية هي التي جعلت الدستور يميل للناس، وأن يكون لهؤلاء الناس نصيب حقيقي في الحكم من خلال ممثلين وثقوا فيهم، فكانوا من الأمانة أن يتمسكوا بنصوص الدستور لأنها تعبير عن نضال الناس من أجل تقليص سلطة الحاكم،وإرساء تقاليد دستورية محترمة..وأن يكون الدستور هو المرجع الذي يرجع إليه و الحكم الذي يحتكم إليه..ومعيارا للحكم الصالح من أجل الخير العام.وعليه لم يكن تمسك زعماء الثورة:سعد زغلول ومصطفى النحاس على التوالي، بأحكام الدستور مجرد تمسك بنصوص وإنما بما أنجزه المصريون،الذين بحسب طارق البشري"وثقوا من أنفسهم..وبدوا فرحين كانسان وجد نفسه"..
لقد أوضح المسلسل إلى أي حد وفي أكثر من مناسبة كيف كان يتم الانتصار للدستور..الكلمة التي أرقت الملك الشاب وجعلته يرددها بشكل متوالي ضيقا من النحاس باشا ومقلدا له..الدستور، الدستور، الدستور، الدستور... وكيف أن الباشا دائم الاستدعاء للدستور عند مناقشة الملك الشاب الذي كان يميل لعدم الامتثال للدستور،بتعبير موريس دوفرجيه،وهو الواجب الامتثال..فيقوم بتذكيره النحاس باشا بقوله :الدستور جلالتك..الدستور..الأمة..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern