الدين في العلاقات الدولية، كان عنوان المحاضرة التي ألقيتها منذ أسابيع، وللمرة الثانية، لشباب المعهد الدبلوماسي، بدعوة كريمة من د.وليد عبد الناصر. حاولت أن أتتبع فيها مسار النظام الدولي منذ القرن السابع عشر وكيف أن معاهدة وستفاليا التي عقدها الأوروبيون عام 1648، قد أقرت عدم توظيف الدين في العلاقات بين الدول بعد حروب ممتدة مذهبية الطابع عرفتها أوروبا لعقود.بيد أن هذا الأمر طبقه الأوروبيون على أنفسهم،حيث وظفوا
الدين في موجاتهم الاستعمارية الأربع التي امتدت للمنطقة العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا على الترتيب.وبسبب الصراع الذي عرفه العالم في القرن العشرين بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في القرن العشرين توارى الصراع الديني لصالح التنافس بين الفكرتين الرأسمالية والاشتراكية. ومع تفجر الثورة الإيرانية وانطلاق حركة لاهوت التحرير واليمين الديني في أمريكا،وتفكك الإتحاد السوفييتي،وتشظي الخصوصيات الثقافية،عاد مرة أخرى الدين لمسرح العلاقات الدولية،أو بتعبير المفكر الفرنسي برتران بادي"عودة المقدس للعلاقات الدولية". وعلى الرغم من أن الدراسة المتأنية تقول أن الدين يستخدم دوما لتغطية المصالح كما حاولنا أن نثبت ذلك في المقدمة النظرية لكتابنا الإمبراطورية الأمريكية(2003)،حيث اعتبرنا الصدام الجاري هو صدام بين العولمة في المركز والخصوصيات الثقافية في الأطراف،أو ما عبر عنه مؤخرا د. محمد السيد سعيد بالكتلة الملتهبة.
وانتهيت في المحاضرة إلى الكيفية التي يجب أن نواجه بها هذا الصراع،بالتحذير أنه من الخطورة بمكان التعامل مع كثير من المواقف التي تحدث بالرغم من دينيتها الواضحة، باعتبارها مواقف دينية خالصة،ومن ثم ضرورة الرد عليها ردا دينيا،وعليه الوقوع في فخ الصراع الديني،كما يريده البعض،ومثلما روج له هانتيجتون في منتصف التسعينيات، ومدرسة كاملة من النافذين في دوائر صنع القرار الأمريكي أو ما ردده برنارد لويس مؤخرا حول حتمية الانقسام المذهبي للمنطقة فيما عرف بمؤتمر هرتزليا(راجع الوفد 14/6/2007). ففي ظني أنه قد آن الأوان أن نتخلص من القراءة الدينية للوقائع والأخذ بأمرين هما:
• إدراك الخريطة المعرفية التي ينطلق منها الحدث و الحديث.
• الأخذ بالفهم التاريخي وتطبيق علم اجتماع السياسة وعلم اجتماع الدين باتجاهاته الجديدة.
في هذا السياق، ينبغي التعامل مع ما تردد مؤخرا حول تجديد وثيقة الفاتيكان التي صدرت في أغسطس 2000:
"إعلان المسيح والكنيسة للخلاص والوحدة"
"Declaration On The Unicity and Salvific Universality Of Jesus Christ And The Church"
نعم الوثيقة تصدر عن كيان ديني مركزي عابر للحدود،وتصدر عن مرجعية دينية معتبرة، ولاشك أيضا أن القراءة المباشرة للنص تشير دون أدنى لبس إلى" حقيقة جوهرية أن الكنيسة الكاثوليكية تحمل وحدها السر الكامل لخلاص البشر ( النجاة في الآخرة)،و أن هناك جماعات مسيحية لا تلتزم مرجعية التسليم الرسولي أي أن مؤسسيها ليسوا من تلاميذ أو رسل السيد المسيح لا يعدون كنائس بالمعنى اللاهوتي المتعارف عليه لدى الكنيسة الكاثوليكية، ومن ثم تصفها بأنها مجرد جماعات مسيحية، وأنها تعاني من نواقص (defects)" بنص الوثيقة، و"لا تتمتع بمزايا الخلاص كاملة كالتي منحت للكنيسة الكاثوليكية". ولكن بالرغم مما سبق فانه ينبغي التعامل مع الأمر ليس باعتباره معركة بين المذاهب المسيحية أو بين الإسلام والمسيحية، وحصر المسألة في الإطارين الديني والمذهبي فقط.وإنما باعتبار الأمر أكثر تركيبا وهو ما حاولنا تطبيقه في حوارنا مع الأستاذ عماد الغزالي في جريدة الوفد في سبتمبر الماضي عقب محاضرة بابا روما حول الإسلام.
بداية،لابد من الأخذ في الاعتبار السياق التي أصدرت فيه الكنيسة الكاثوليكية هذه الوثيقة،فلقد أرادت أن تعلن عن الحقائق الإيمانية المسيحية وعقائد الكنسية الكاثوليكية الأساسية في لحظة تاريخية يموج فيها العالم بالكثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والرؤى الدينية التي قد تشكل خطرا على الكنيسة الكاثوليكية. ومن ابرز الأخطار التي اهتمت الوثيقة بالرد عليها هذه التصورات التي تبرر فكرة التعدد الديني كمبدأ فلسفي ولاهوتي وليس مجرد واقع عالمي وتاريخي،وهو أمر لا يمكن فهمه دون إدراك السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي نشأ وتطور من خلاله بابا روما وتبلورت فيه رؤيته الفكرية.فقبل ذلك أصدر البابا بيندكت( وقت أن كان اسمه الكاردينال راتزينجر ومسئول عن مجمع العقيدة والإيمان في الكنيسة الكاثوليكية منذ العام 1981) في عام 1985 ما عرف آنذاك باسم"تقرير راتزينجر"يرصد فيه المشاكل التي تواجه الكنيسة الكاثوليكية، ودراسة كيفية مواجهة العلمانية والبروتستانتية والسمات المدنية لأوروبا والإسلام ذلك بإحياء ما أسماه المركزية الكاثوليكية ،الأمر الذي نصبه بطلا للمحافظين في الفاتيكان وواجه بهم تيارات التحديث والانفتاح والحوار في داخل الفاتيكان لها رؤية أخرى مغايرة،كذلك مواجهته العنيفة لحركة لاهوت التحرير، الأمر الذي جعله يحظى بوصف The Enforcer(راجع دراستنا عن تجربة لاهوت التحرير في مجلة القاهرة يناير 1994). و أخيرا عمل على نشر تلامذته في جسم الفاتيكان وهو ما أتاح له أن تكون له قاعدة انتخابية داعمة له تمكنه من الفوز في سباق البابوية إبريل 2005(توقعنا فوزه في مقال سبق الانتخابات)، وتمثل مجموع كتاباته بنية متكاملة تعكس رؤية الرجل،والتي قلت مرة أنها تمثل انقلابا هادئا على ما جاء في مجمع الفاتيكان الثاني من أفكار تجديدية، الذي عقد في مطلع الستينيات من القرن الماضي،( لمعرفة رأيه وأفكاره وصعوده وأسباب نجاحه يراجع كتاب جون ألن:The Rise Of Benedict XVI).
صفوة القول يعبر البابا الحالي عن اتجاه له قاعدته الاجتماعية في أوروبا، وهو ما يجب فهمه، وعدم اختزال الأمر في صورته الدينية والمذهبية المباشرة، و أن هناك في المقابل اتجاهات أخرى تحديثية لم تزل متمسكة بما جاء في أعمال مجمع الفاتيكان الثاني من أفكار منفتحة جديرة بالتواصل معها ودعمها.ويمكن اعتبار الجدل حول هوية أوروبا في الدستور الأوروبي الموحد أحد تجليات الصراع بين المحافظين والمحدثين وكل منهما له قاعدته الاقتصادية و الاجتماعية التي تدعمه،والتي يمكن اعتبارها في الواقع الصراع الأصلي،ويعد ملف هوية أوروبا من الملفات التي يعتبر البابا بيندكت أحد أطرافها الأساسيين. أي انه لابد من التعامل مع الوقائع الدينية باعتبارها نتاج للواقع وتعبير عن تفاعلات مركبة،وبالتالي فان فهم الخريطة يجعلنا نعرف إلى أين نتجه ومع من نتعامل لحصار التشدد في الجانبين.
لاشك أن أي دعوة للتمايز المذهبي سوف تفاقم من أثر فيروس التفكيك الذي يسري في جسم المنطقة، وتصب في دعوة برنارد لويس لحتمية الانقسام المذهبي..وعليه ينبغي عدم الوقوع في فخ السجال المذهبي والديني من جهة،وأن نعتمد تحليلا يتجاوز القراءة الدينية المباشرة إلى ماهو اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي.
______________________________________________________
إضاءة:
• الخوف أن يكون كلام التمايز المذهبي دافعا إلى طاحونة الحرب،التي كنا،مسلمين ومسيحيين ،في هذا الشرق المنكوب والمكابر،وبالحوار بين أهل العدل في الغرب والشرق،نسعى دائبين إلى تلافيها لما فيها من سحق للدين والمتدينين والأوطان والمواطنين.
السيد هاني فحص
رجل دين ومفكر وأديب لبناني